في مئوية الزعيم .. وحديث عن ارادة التغيير (1) …



" إن ارادة التغيير لدى أصحاب المثل العليا أقوى من الأمر الواقع مهما بدا راسيا راسخا كالجبال " .. 
                                   جمال عبد الناصر

لعيد الثورة هذا العام مذاق مختلف حيث تجتمع فيه ذكرى مئة عام من ميلاد الزعيم وذكرى ثورته.
والواقع  ان هما حدثين  على قدر من الأهمية والتلازم متلازمين لا يقبلان الفصل عن بعضهما ، مولد الزعيم الثوري الذي فجرت أفكاره وتجربته الامال في صدور المتطلعين للثورة والعدالة الاجتماعية في شرق العالم وغربه ، وذكرى ثورته التي كانت – ولا تزال – نموذجا لما يمكن للشعوب ان تحققه في ظل قيادة مخلصة وإرادة تغيير ثوري . أي باختصار انه لا يمكن الحديث عن يوليو بغير ناصر. وهو الرأي الذي يجمع عليه مؤيدو عبد الناصر ومعارضوه . ويحمله طبقا له كلا الفريقين المسؤولية الكاملة عن إنجازات الثورة واخفاقاتها، ومن جانب اخر يعبر عن الصورة التي رسمها التاريخ لعملاق بنى مر صاحب إرادة الفعل الأقوى في تاريخ هذا الوطن، صورة تختلف في اعين الفلاحين والعمال عن تلك في عيون المثقفين او السياسيين، صورته في عيون من عاصروه وفي عيون أجيال لم تراه، صور عدة يجمعها د غالي شكري بكلماته قائلا: ان عبد الناصر – كفرد – لم يكن رجل المعجزات ولا رجل الكوارث، وانما كان ولايزال بطلا قوميا جسد في إحدى لحظات التاريخ نضال امة ترسف في أغلال القهر والتخلف . وقد استمد بطولته من طاقته العظمى على التحدي أيا كانت الاساليب التي استخدمها في طريق التحدي وأيا كانت النتائج التي وصل اليها . فإن هذه الاساليب والنتائج – مجتمعة - لم تكن معزولة عن البيئة التي ولدته وانعكاسات العصر التي واكبته وطبيعة التحديات التي واجهته. [1]


ولا شك بالطبع ان منجزات ثورة يوليو لا يمكن تفسيرها في ضوء شخصية عبد الناصر وحدها – فالتكوين الاقتصادي والاجتماعي للوطن لهما دورهما الحاسم – ولكننا لا نستطيع الوصول الى تفسير أقرب الى التكامل والاقناع والشمول بغير القاء الضوء على شخصية الزعيم وبدون الربط بين سمات تلك الشخصية الفريدة وبين ما استطاع تحقيقه.  وهذا النوع من الربط هو امر ضروري اليوم، وخاصة بعد عقود من الهدم والتشويه المتعمد لإنجازات تلك الأيام المجيدة من تاريخ مصر ، حيث اثبت كل يوم مر بعد رحيله عن دنيانا كيف كان لغيابه اثرا بمثل عمق حضوره . وهو الامر الذي يفرض على كل متحر عن الصورة – شبه الكاملة – رؤية التجربة الناصرية في سياق تاريخي وربطها بما سبقها وما تلاها من وقائع. 
وهكذا فان السطور التالية هي محاولة لإعادة قراءة صفحات من تاريخ ثورة يوليو في ظل واحدة من اهم سمات شخصية الزعيم والتي كان لها أكبر الأثر في قراراته ومسيرة ثورته، وهي استقراءه الناقد للتاريخ. فما اجمع عليه الكثيرين ان عبد الناصر كان قارئا نهما وواعيا للتاريخ، يؤكد ذلك ما سطره بقلمه في وثائقه الثلاث الأشهر (فلسفة الثورة – الميثاق – بيان 30 مارس) والتي عرض خلالهن رؤيته الناقدة لنضال الشعب المصري عبر تاريخه الحديث ، والتي استمد منها دروسا استند عليها في تجربته الثورية الفريدة. واذا كانت دراسة تلك الوثائق الثلاث تظهر الكثير من ذلك الارتباط بين قراءة التاريخ المصري عند عبد الناصر وتوجيه مسار التغيير الثوري ، فإن قراءة منجزات ثورة يوليو في سياقها التاريخي يؤكد ان ذلك الارتباط لم يكن نظريا ، بل هو ارتباطا تطبيقيا نابعا من ايمان الزعيم الاصيل بأن الثورة هي مجرد حلقة من حلقات النضال بدأت قبله وستستمر بعده .. وبأن"  قصص كفاح الشعوب ليس فيها فجوة يملؤها الهباء وكذلك ليس فيها مفاجآت تقفز إلى الوجود دون مقدمات.
إن كفاح أي شعب ، جيلاً من بعد جيل ، بناء يرتفع حجر فوق حجر ..
وكما إن كل حجر في البناء يتخذ من الحجر الذي تحته قاعدة يرتكز عليها ، كذلك الأحداث في قصص كفاح الشعوب.
كل حدث منها هو نتيجة لحدث سبقه ، وهو في نفس الوقت مقدمة لحدث مازال في ضمير الغيب [2]
لقد كانت إنجازات ثورة عبد الناصر الدليل العملي ان الوطن عبر تاريخه الطويل لم يفتقد ابدا الوعي بمشاكله وتحدياته ولا بالكيفيات والسبل والآليات المحققة لأهدافه ، وانما كانت اشكاليته دائما – ولا تزال - في غياب إرادة الفعل او كما وصفها المفكر والفيلسوف المصري زكي نجيب محمود " إرادة التغيير"
لقد استطاع عبد الناصر بإرادة التغيير الثوري ان يحقق طموحات واحلام الوطنيين ممن سبقوه ، والذين حلموا بتغيير ثوري  نحو العدالة الاجتماعية ، اسس النصف الاول من القرن العشرين له قاعدة بداية ، سواء من خلال الحراك الفكري والثقافي الوطني ، او من خلال عدد من المحاولات الفردية التي تمت بالفعل هنا وهناك على عدد من الاصعدة الاجتماعية والاقتصادية وغيرها ..

بداية من حلم الاستقلال الذي لعبت ارادته هو ورفاقه دور البطولة في تحقيقه ، بالإضافة الى ذلك ثمة عاملان في غاية الأهمية : الأول كما سبق وذكرنا هو دراسته الدقيقة لما سبقه من نضال - والذي يحكي عنه في الباب الثاني من الميثاق – واستيعابه لاخطاء الحراك الوطني السابق له ، والثاني هو  ايمانه بقدرة الشعب المصري على الثورة . وهو احد اهم الأمور التي جعلت من الثورة حدثا ممكنا ، و ميزت عبد الناصر عمن سبقوه، ولنا  تصف كلمات نشرتها احدى الصحف النمساوية عام 1896 حديث للزعيم المصري مصطفى كامل جاء فيه : " ولما كانت الامة المصرية متألمة ولها حقوق الخلاص من النير الإنجليزي فترى للوصول الى غرضها سبيلين .. سبيل الثورة ، والسبيل السلمي .. اما سبيل الثورة فنحن لا نريده ، لأننا قبل كل شيء قوم مشهورون بالدعة وحب السكينة ونبغض المذابح والجرائم ، ومن جهة أخرى فإن لأوروبا عندنا مصالح تضر بها الثورة لذلك اعرضنا عن سبيل الثورة الذي نكرهه بفطرتنا واخترنا السبيل السلمي "
وهي الرؤية التي تقابل رؤية عبد الناصر الذي آمن أن الشعوب المغلوبة على أمرها قادرة على الثورة، وأكثر من ذلك أنها قادرة على الثورة الشاملة. بأن " إن إرادة الثورة لدى الشعب العربى المصرى، والصدق الذى سلحت نفسها به، حققت مقاييس جديدة للعمل الوطنى، لقد أكدت هذه الإرادة وصدقها أنه لا يمكن أن تقوم عوائق أو قيود على إمكانية التغيير؛ إلا احتياجات الجماهير ومطالبها العادلة. إن المنطق التقليدي فى مثل الظروف التى واجهها نضال الشعب المصرى كان يغرى بطريق المساومات والحلول الوسط، والتفكير الإصلاحي الصادر عن العطاء، والتبرع. لقد كان ذلك بالمنطق التقليدى هو الممكن الوحيد فى مواجهة السيطرة الخارجية المعتدية، والسيطرة الداخلية المستغلة، وفى غيبة تنظيم سياسى مستعد، وبدون نظرية كاملة للعمل؛ لكن إرادة الثورة فى الشعب المصرى وصدقها تحدت هذا المنطق التقليدي، وجابهته بتفجير طاقات مليئة بإمكانيات العمل المبدع الرائد." [3]  ويحكي التاريخ نتاج كلا الرؤيتان وما استطاع كلا الرجلان ان يحقق .
لقد اختار عبد الناصر لنفسه طريقا واضح المعالم منذ البداية وهو طريق الثورة، ايمانا منه بانه السبيل الوحيد لتحقيق اماني الشعب وأهدافه، واسهمت ارادته الحديدية في تحقيق تغيير ثوري حقيقي وانقلاب على كافة الأصعدة السياسية والاجتماعية والاقتصادية. واذا كان الكثيرين وعلى رأسهم عبد الناصر يصف منهج الثورة في احداث تلك التغييرات بالمنهج التجريبي، وهو الامر الذي قد يكون صحيحا بالنسبة للوسائل الا انه لا ينطبق على الاطلاق على الغايات، فأهداف الثورة ومسارها كانتا واضحتين منذ البداية وانما دعت متغيرات التجربة وظروف الواقع وتحدياته الى التغيير المستمر في الاساليب والاليات للوصول للأنسب ..
لقد اكتسبت اهداف ثورة يوليو اصالة خاصة ليس فقط لأنها نبعت من ظروف الواقع المصري المعاصر لها ، ولكن لأنها استندت على تاريخ نضال الشعب المصري استنادا تراكميا ،وعلى تطلعات التغيير التي طرحت خلال عقود سبقتها وعلى دراسة اطرها النظرية ان كانت مجرد أفكار ومراجعة ما نفذ منها بالفعل من تجارب ومبادرات ، ليتشكل من ذلك كله جذور التجربة الثورية،  ويؤسس لمنجزات فريدة لا تزال تظلنا حتى يومنا الحاضر . وقد يطول الحديث عن الأصول التاريخية للتغييرات الثورية التي بعثت فيها ثورة يوليو الحياة ، الا اننا نستطيع ان نلقي الضوء على ومضات من تلك التغييرات والتي انطلقت بعد أيام من قيام الثورة وأولها :

الإصلاح الزراعي

كان صدور قانون الإصلاح الزراعي الاول بعد أسابيع من اندلاع الثورة معبرا عن الاستجابة الثورية لتطلعات فلاحي مصر نحو العدالة الاجتماعية ..عدالة اجتماعية غائبة عن المجتمع المصري الذي ظل مقهورا بين رحى استغلال الاسرة المالكة والاستعمار ، والذي عمل كلاهما على تحويل مصر الى وسية كبيرها يشقى فيها ملايين الفلاحين المصريين ويجني ثمارها الامراء والاقطاعيين والأجانب . تلك الوسية التي تمتد جذورها عميقا في التاريخ ولعل ابرزها  ترجع الى التغييرات التي اجراها محمد على في نظام ملكية الأرض الزراعية بعد الغاء نظام الالتزام الذي منح الملتزمين السابقين – وكانوا لا يملكون الأرض – الحق في التصرف في الأرض ووراثتها ، فخلق ذلك طبقة من كبار الملاك بالإضافة الى الغاء أراضي الأوقاف والتي مثلت حوالي 600 الف فدان تحولت الى شبه ملكيات خاصة للنظار ، وتوزيع ما يقرب من مليون فدان " أراضي الجفالك " على افراد عائلته وكذلك 700الف فدان من أراضي الابعديات   بالإضافة الى ما منحه للعمد ومشايخ البلد من الأراضي المنزرعة في الزمام نظير خدماتهم ، /عفاة من الضرائب ، ويقوم الفلاحون بزراعتها مجانا بالسخرة  وغيرها من الإجراءات التي أسس بها محمد علي للملكية الفردية للأرض وترتب عليها نشأة ارستقراطية زراعية اخذت فرصتها الكاملة في تملك تلك الرض عبر التعديلات التي اجراها اسلافه من الاسرة المالكة وابرزها اللائحة السعيدية في عهد الخديو سعيد ثم  قانون المقابلة في عهد الخديو إسماعيل ووصولا الى الامر العالي في 1891 الذي اعطى كل حقوق الملكية للمنتفعين في الأرض  وبدأ بذلك تاريخ الملكية الخاصة للأرض [4]. وبدأ معه قصة نضال المصريين أصحاب الحق في تلك الأرض للدفاع عن حقوقهم المغتصبه وتحسين أوضاعهم المزرية . قصة نضال  ظلت حبيسة صدور المصريين ولم تجد لها متنفسا سوى عبر عدد من المبادرات والأفكار الاصلاحية والتي يمكن تتبع منها ما طرح في النصف الأول من القرن العشرين ...وكان وراءها أطراف عدة تباينت دوافعها:
فعلى جانب دفع الحكومة المصرية وأصحاب المصالح من الاسرة المالكة  الخوف من الثورة الاجتماعية - لاسيما في الوقت الذي ازدادت فيه المواجهات بين الفلاحين والملاك ومن خلفهم السلطات في أوروبا مع الحرب العالمية الثانية - الى التظاهر بمحاولة الإصلاح ،  بل ان بعض الدعوات – الإصلاحية ظاهريا – طرحها ممثلوا الاستعمار البريطاني في مصر، وان  كان هؤلاء هدفت أفكارهم الى تدعيم مصالحهم في تحويل مصر الى مزرعة للقطن لخدمة مصانعهم ، و بناءا على دعواتهم تم على سبيل المثال انشاء البنك الزراعي المصري في 1902 بهدف معلن هو دعم وتوسيع قاعدة الملكية الصغيرة في مصر ، والذي كان سببا فيما بعد في مصادرة مساحات واسعة من أراضي صغار الملاك تسديدا للرهونات ..
وعلى الجانب الآخر دفعت الرغبة الحقيقية في تحسين أحوال الفلاحين المصريين بعض الحركات المدنية والتنظيمات المجتمعية مثل التنظيمات الشيوعية  و الحركة الديمقراطية للتحرر الوطني  وغيرها الى تكوين الكوادر والأنصار والاهتمام بالعمال والفلاحين وطرح افكار للإصلاح السياسي والاجتماعي. وبعض  عناصر البرجوازية المصرية ، التي راحت تطالب منذ نهاية ثلاثينيات القرن العشرين بتحسين أوضاع أهل الريف وذلك بإعطاء أبنائهم نصيباً من التعليم ، وتخفيف الأعباء الضريبية عن ذوي الدخول المحدودة منهم . بينما ذهبت عناصر اخرى من البرجوازية المصرية إلى جوهر المسألة الاجتماعية، عندما ربطت بين أزمة الريف المصري وسوء توزيع الثروة الزراعية ، بعد أن أصبح ثلاثة أرباع الأمة يعيشون دون خط الفقر ، وذهب هؤلاء إلى أن الحل في تخفيف حدة التناقضات بين الأغنياء والفقراء بتدخل الدولة لزيادة الملكيات الصغيرة قبل أن تضطر إلى نزع الملكيات الكبيرة [5]

وتفاوتت تلك الدعوات في نطاق ومدى تأثيرها ولعل ابرزها وفقا للسياق التاريخي  هي :
  • في بدايات القرن اسفرت الازمة المالية سنة 1907 عن الحاق اكبر الضرر بصغار الفلاحين مما دفع الرائد التعاوني عمر لطفي الى البحث عن طوق نجاة الشعب المصري ، فذهب بناء على توجيه من الزعيم الوطنى محمد فريد لدراسة التعاون الزراعى في إيطاليا سنة 1908، ورأي أن تقتدي الحكومة المصرية بما فعلته ألمانيا وإيطاليا بإنشاء نقابات زراعية في كل بلدة تساعد الفلاحين بدلا من المرابين والمضاربين، فلم توافق الحكومة علي اقتراحه، فلجأ بعدها إلـي انشاء اول جمعية زراعية بنفسه في محافظة الغربية في نفس العام تلتها فى نفس العام 10 شركات تعاونية اخرى واستكمل دعوته بإنشاء النقابات الزراعية، والتي كان عملها هو الإقراض والتسويق التعاوني للحاصلات المصرية [6] 
  •  في نفس الفترة تقريبا صدرت توجهات اكثر شمولا لاصلاح أحوال الفلاحين المصريين ولكنها استهدفت حلول اكثر جذرية ولعل اقدمها واكثرها  نضجا الكتاب الذي أصدره داعية الإصلاح الاجتماعي ، السياسي المصري   مصطفى المنصوري " تاريخ المذاهب الاشتراكية" في 1915 والذي عرض فيه تصوراته ببرنامج الإصلاحات الذي اقترحه في الفصل الأخير من كتابه وهو برنامج يتألف من ستين مطلباً منها تصور متكامل لاجراء اصلاح زراعي تضمنت : إعادة توزيع الأرض على فقراء الفلاحين والمعدمين ، تحديد قيمة الايجار بما لايزيد عن 10 جنيهات للفدان ، ووضع حد ادنى لأجور العمال الزراعيين واعطائهم حق تشكيل نقابات لهم .
  •  يليه ما عرضه يوسف نحاس في كتابه " الفلاح " الصادر في 1926 ،والذي طالب هو الاخر بتوسيع قاعدة الملكية الصغيرة  وان كان قد شغل نفسه اكثر بالدفاع عن العمال الزراعيين وطالب لهم بظروف عمل افضل . [7]
  •  وفي نفس العام صدر عمل شديد الأهمية  لإبراهيم رشاد الرائد الثاني للتعاونيات في مصر- وأول من حصل على الدكتوراة في الاقتصاد التعاوني من بريطانيا، والذي بدأ مسيرته عام 1920 ، حيث عمل بتدريس مادة التعاون الزراعي في مدرسة الزراعة العليا، كما درس مادة التعاون كجزء من مقرر الاقتصاد لطلبة كلية الحقوق - وهو احد أهم المراجع في التعاون الزراعي  من جزئين عامي 1926 و1935، كتابه " المزرعة التعاونية " الذي قدم فيه مشروعا متكاملا لتطوير جمعيات تعاونية زراعية إنتاجية ، وقد ساهم في وضع تشريعات التعاون لعامي 1923 و،1927 و كرس حياته من اجل الدعوة والتوجيه التعاوني لتكوين جمعيات تنظيمية من الرجال المؤمنين بالتعاونيات والراغبين في نشر مبادئها، وفتح مدارس ليلية ونهارية لتعليم الراغبين مبادئ التعاون وأساليب إدارة مؤسساته، ونشر الكتب والمجلات والنشرات والمقالات، والمساعدة في قيام الاتحادات التعاونية الأولى، ومراجعة حسابات التعاونيات وتنظيم التفتيش عليها، وتوجيهها وإرشادها، وتوفير القروض لها، وتنظيم المقاومة الجماعية للآفات، والميكنة والنحالة والتسويق التعاوني وتيسير تسجيل الجمعيات الجديدة وشهرها، وأخيرا العمل على تأسيس بنك التعاون العام، والذي قامت الحكومة بالتعسف معه، وحله عام 1946، [8]  ومن الجدير بالذكر ان وزارة الشئون الاجتماعية قد وافقت في الاربعينات على مشروع المزرعة التعاونية الإنتاجية واوصت بتطبيقه بصفة تجريبية الا ان ذلك لم يتم وكذلك في 1950 حيث اوصت لجنة الدراسات العربية للأبحاث الاجتماعية التابعة لجامعة الدول العربية بمحاولة تطبيق المشروع نفسه على أساس انه الطريق الأمثل لتنظيم الاستغلال الزراعي -  
  • في 1928 جاء ما كتبه خليل سري في كتابه الهام " الملكية الريفية الصغرى مستكملا المسيرة  حيث هاجم فيه كبار الملاك والسياسة البريطانية في مصر هجوما شديدا ، و طالب بتوسيع قاعدة الملكية الصغيرة ، حيث قال " فقدان الملاك الصغار لاراضيهم سيجعل منهم بروليتاريا زراعية تهاجر الى المدينة وتقع فريسة للافكار الخطرة
  •  وجاء على التوازي من تلك المبادرات الفردية برنامج الإصلاح الزراعي الذي قدمه الحزب الاشتراكي المبارك الذي تضمن المطالبة بمصادرة أراضي كبار الملاك وتوزيعها على الفلاحين المعدمين ، وحق العمال الزراعيين في إقامة تنظيماتهم المستقلة ، والتوسع في التعاونيات الزراعية وتطويرها بحيث تتحول الى تعاونيات إنتاجية  ورفع الحزب شعار" الأرض لمن يفلحها "
  • وفي سنة 1925 بعد حل الحزب الاشتراكي المبارك أصدرت جريدة الحساب سلسلة من المقالات تطالب فيها بضرورة اجراء اصلاح زراعي جذري ، وتطالب عمال الزراعة وصغار الفلاحين بتوحيد خطواتهم لخلق حركة فلاحية قوية منظمة . وقامت بالفعل اول نقابة للعمال الزراعيين في مصر في منطقة المطاعنة في الصعيد على المزارع التي تمتلكها احدى الشركات الزراعية ،
  • وفي الثلاثينات تعرض عدد من الكتاب المتأثرين بالفكر الاشتراكي العالمي لقضية الإصلاح الزراعي ابرزهم عصام حفني ناصف ، تبع ذلك في الاربعينات حركة مغايرة  حيث طرح عددا من التنظيمات الشيوعية برنامجا تفصيليا حول الإصلاح الزراعي يشترك مع من سبقوه في المطالبة بتحديد الملكية ومصادرة الملكيات الكبيرة وتوزيعها على الفلاحين وتشجيع التعاونيات الزراعية وتحديد قيمة ايجار الأراضي، وتنظيم نقابات لعمال الزراعة [9]
  •  ودفعت الدعوات المتعاقبة الجهات الحكومية لاتخاذ اجراء  لتحسين أحوال الفلاحين فأعلنت الحكومة في سنة 1943 عن نيتها في التوسع في بيع اراضي الدولة لصغار الملاك في محاولة لنشر الملكيات الصغيرة ، ولكنها لم تتخذ خطوات عملية لتحقيق ذلك .[10]
  • اما في 1944 فقد تقدم محمد خطاب عضو مجلس الشيوخ عن الحزب السعدي ، باقتراح في المجلس يطالب فيه بوضع حد للملكية الزراعية ب 50 فدانا ومن المهم هنا ان نشير ان خطاب نفسه كان مالكا كبيرا ولم يكن يعني تطبيق مشروعه في ذلك اوقت ولكن على حد قوله بالتطبيق التدريجي في المستقبل . وقد وافقت لجنة الشئون الاجتماعية في مجلس الشيوخ على المشروع مع رفع الحد الأقصى الى 100 فدان ولكن مجلس الشيوخ رفض المشروع حماية لمصالح كبار الملاك [11]
  • ·        و في نفس الفترة تقريبا وضع  مريت غالي تصورا للإصلاح الزراعي بدأه مع جماعة النهضة القومية التي كان عضوا فيها و اصدر عنه كتابين هما " سياسة الغد " و " الإصلاح الزراعي " وفيهما قدم مشروعا متكاملا لاجراء اصلاح زراعي يقوم على الأسس التالية : وضع حد اقصى للملكية تقدر بـ 100 فدان مع اتاحة الفرصة للملاك الكبار للتصرف في ممتلكاتهم الزائدة بالبيع او الهبة خلال ثلاث سنوات.،توزيع الأراضي الزائدة عن الحد الأقصى على صغار الفلاحين بالثمن على أقساط طويلة المدى .، وضع حد لقيمة الايجار للأراضي الزراعية.وكذلك الاهتمام الواسع بالتعاونيات لكي تكون قادرة على مد الفلاح بالقروض الائتمانية ومتطلبات الزراعة . ثم قام مريت غالي في 1950 بعرض مشروعه الإصلاحي الى مجلس النواب عندما كان عضوا فيه
  • كما أصدر صادق سعد،  أحد كتاب مجلة "الفجر الجديد" الماركسية، كتيباً عام 1945، باسم (مشكلة الفلاح)، عرض فيه حال الفلاحين في مصر، من وجهة النظر الماركسية، وحدد ثلاثة مطالب للإصلاح الزراعي، هي: تحديد الملكية الزراعية، وتوزيع ما  يزيد عن خمسين فدان، على  الفلاحين  الفقراء.تشجيع  زيادة  الإنتاج، عند هؤلاء الفلاحين، عن طريق تشجيع الجمعيات التعاونية  الإنتاجية.  حماية  الطبقة  الفلاحية، بإصدارالتشريع الفلاحي.
  •  وبين سنوات 1949-1952 كتب عدد من الشخصيات المعروفة مثل الدكتور محمد مندور وإبراهيم طلعت وغيرهم عدة مقالات في صحف الوفد " صوت الامة " و " الطليعة الوفدية " يطالبون فيها بإصلاحات زراعية ويقدمون فيها أفكارا راديكالية .
  • وفي الانتخابات العامة التي أجريت سنة 1949 وضع 49 مرشحا ينتمون الى أحزاب مختلفة مشروعات للإصلاح الزراعي وتحديد الملكية
  •  في 1950 قدم إبراهيم شكري نائب رئيس الحزب الاشتراكي مشروعه الخاص بالإصلاح الزراعي مطالبا بتحديد الملكية ومبديا مخاوفه من ان يقوم كبار الملاك باعمال تخريبية [12]


وعلى كل حال فقد نبعت دعوات الاصلاح  من معاناة الفلاحين المصريين الذين كانوا يمثلون النسبة الغالبة في القوى العاملة والمنتجة لدعامة الاقتصاد الرئيسيه في مصر وقتها ، ومع ذلك كانوا يعانون من الاستعباد والقهر والفقر ، واجتمعت اغلب تلك الدعوات على نقاط جوهرية في أي مشروع إصلاحي  هي :
  •  معالجة الاقطاع الزراعي بتحديد الملكية الزراعية وتوسيع قاعدة الملكيات الصغيرة
  • تشجيع التعاونيات الزراعية التي تدعم صغار الفلاحين ونقابات العمال المنظمة لشئونهم
  • تحديد قيمة الأجورللعمال الزراعيين وكذلك تحديد قيمة ايجارات الأراضي


وباستثناء المبادرات الفردية الخاصة بالجمعيات التعاونية الاهلية التي جرى انشاؤها على يد عمر لطفي ومعاصروه فإن حصيلة النضال في سبيل اصلاح أحوال الفلاحين  في النصف الأول من القرن العشرين كانت صفرا ، وظلت كل تلك الأفكار والمبادرات حبرا على ورق حتى اندلاع ثورة يوليو 1952 التي استطاعت بعث الحياة فيها لتصبح أساس وقوام مشروع الإصلاح الزراعي .





 إننا نريد تحرير الفرد؛ فلا يمكن أن تتحرر أمة إذا كان فردها مستعبداً، لا يمكن أن نحرر الوطن الكبير قبل أن نحرر الوطن الصغير، لا يمكن أن نحرر المجتمع الأكبر قبل أن نحرر الفرد. ولا نعنى بتحديد الملكية وتوزيع الأرض أننا سنملك كل فلاح، ولكنا نعنى تحرير الفلاح، تحرير العبيد الذين استخدموا فى هذه الأراضى، تحريرهم حرية أبدية، تحريرهم من كل أنواع الذل ومن كل أنواع الاستعباد، ولكنا نريد أن نقضى على نفوذ الإقطاع، ونفوذ الإقطاعيين، ونفوذ الملاك، ولكنا نريد أن نحرر الفرد، ولن يتحرر هذا الوطن إلا إذا حررنا الفرد.(كلمة الرئيس جمال عبد الناصر فى حفل توزيع أراضى الإصلاح الزراعى فى نجع حمادى )


جاءت حركة الإصلاح الزراعي مع ثورة يوليو لتعيد التوازن للمجتمع المصري من عدد من الإجراءات تدعم جميعها مبادئ العدالة الاجتماعية تسعى الى استقرار البنيان الزراعي وزيادة الإنتاج متبنية فلسفة ذات محاور رئيسية هي:
أولا:  وضع الملكية في موضعها ، وتطبيق قاعدة الأرض للمزارع وتعظيم ما وراء تلك الملكية من وظيفة اجتماعية يجب ان يؤديها المالك للمجتمع ، وهو ما تم من خلال إعادة توزيع الثروة الزراعية والتي استهدفت أيضا تضييق الفجوة بين طبقات المجتمع وتحديد الحقوق والواجبات تحديدا واضحا وعادلا بين الأطراف المختلفة سواء كانوا ملاكا ام مستأجرين ام عمالا زراعيين وان يرتبط هذا التحديد بالقدر الذي يسهم به كل منهم في الإنتاج .
ثانيا : تكوين نظام تعاوني متكامل يصبح أساسا للاستقلال الزراعي مع العمل باستمرار على تدعيم النظام وتوفير الظروف الموائمة لنموه وتقدمه مع مراعاة وضع رأس المال في موضعه الطبيعي وهو خدمة المزارع .. والنظام التعاوني ضرورة تتكامل مع توزيع الأراضي على صغار للفلاحين حيث لن يمكنهم منفردين استغلال ملكياتهم والنهوض بانتاجها ، فربط الإصلاح الزراعي بين حيازة الأرض الموزعة والاشتراك في تعاونيات زراعية تضم المنتفعين بالتوزيع وبهذا اصبح التعاون الزراعي ركنا لايقوم بغيره الإصلاح الزراعي .
ثالثا : تعظيم دور الدولة في رعاية نظام الإصلاح الزراعي وتدعيمه حيث لا يستقر النظام دون رعاية مستمرة ومنع كل محاولة من كبار الملاك لتقويض النظام وتوفير الإعانات المادية والفنية والتمويل اللازم لضمان ذلك [13]
فصدر قانون الإصلاح الزراعي الأول في 9/9/1952 المرسوم بقانون 178 لسنة 1952 والذي تكون من أربعين مادة تنص على تحديد الحد الاقصى لملكية الفرد من الاراضى الزراعية بمائتى فدان وملكية الاسرة بثلثمائة فدان، ويسمح لكبار الملاك بالتصرف في املاكهم الزائدة بالبيع او الهبة  ، وصرف تعويضات مجزية للملاك قدرت اثمان الأرض فيها بعشرة أمثال القيمة الايجارية ، وقرر القانون توزيع الأراضي الزائدة على الفلاحين بواقع من 2 الى 5 فدان على ان يسددوا ثمن تلك الأراضي على أقساط لمدة ثلاثين عاما وتناول القانون أيضا تنظيم الجمعيات التعاونية وتحديد ضريبة الأرض ووضع حد ادنى للأجور وإعطاء العمال الزراعيين الحق في تكوين نقابات زراعية، وغيرها من المواد التي جائت استجابة لاغلب ما سبق طرحه من أفكار .
وبلغ مجموع الأراضي التي يطبق عليها القانون الاول حوالي 652 الف فدان تنتمي الى 1789 مالك كبير الا ان نصف تلك الأرض قام ملاكها ببيعها بأساليبهم الخاصة – صوريا – لأقاربهم وذويهم مما حتم اجراء تعديلات للمادة التي تسمح للملاك ببيع أراضيهم الزائدة بأنفسهم .. وتتابعت صدور مزيد من القوانين والتطورات التي تعرضت لمصادرة أراضي الاسرة المالكة وحل الأوقاف وتحريم امتلاك الأجانب للأراضي الزراعية وغيرها .. في دراسة للمركز القومي للتخطيط نشرت في 1972 ، اشارت الى انه منذ صدور قانون الإصلاح الزراعي الأول سنة 1952 وحتى سنة 1966 حدث اكثر من 118 تعديل ، شملت التعديلات 75% من المواد الأساسية في القانون الأول  
استطاع الإصلاح الزراعي تحقيق أهدافه الرئيسية واهمها إعادة توزيع ملكية الأرض الزراعية  فوفقا للاحصائيات الرسمية فان خلال سنوات الثورة الثمانية عشر استطاع الإصلاح الزراعي ان يقلص القمم العليا من الملكيات الكبيرة ( اكثر من 200 فدان ) والتي كانت تسيطر على 19.7 من الأراضي الزراعية قبل الثورة لتختفي نهائيا بعد سنة 1965 ، وتظل النسب متقاربة بالنسبة للملكيات التي تتراوح بين 50-200 فدان مع انخفاض طفيف من 7.2% الى 6.1 %  مما يوضح ان من تلقى الضربة الكبرى هم أصحاب الملكيات الضخمة .. وذلك لصالح أصحاب الملكيات الصغيرة والمتوسطة .هذا بالإضافة الى أهدافه الأخرى المتعلقة بانشاء الجمعيات التعاونية والنقابات الزراعية وتطوير وسائل الإنتاج الزراعي وهي الأمور التي اسفرت عن طفرة في الإنتاج الزراعي حققت في العشر سنوات الاولى – وطبقا للإحصاء الرسمي لعام 1962- مضاعفة الدخل النقدي الزراعي في مصر .

لقد كان الإصلاح الزراعي احد اهم إنجازات ثورة يوليو وزعيمها جمال عبد الناصر ، 
واذا اسفرت قراءة ذلك الإنجاز الهام في ظل ما سبقه من نضال ، أسس له ومهد لتحقيقه ،عن رؤية واضحة لدور قراءة التاريخ لدى عبد الناصر في تحقيق اهداف الثورة الاصيلة ، فإنه - كما سبق وذكرنا - للساعي وراء الصورة شبه الكاملة ان  يتتبع المسار التاريخي لما أصاب هذا الإنجاز العظيم بعد رحيل صاحبه ، ليكتشف الخسارة التي لحقت بإنجاز ثورة يوليو الأول والردة على أهدافه والتي عادت على اثره طبقة كبار الملاك  والاقطاعيين في التشكل وانحسرت طبقة صغار الفلاحين وضاقت على من تبقى منهم سبل الحياة ، نتيجة لتراجع دور الدولة المساند لهم والتغييرات المتلاحقة الهادمة لفكرة التعاون الزراعي وتحول البنوك الزراعية الى سيوف مسلطة على رقاب الفلاحين بدلا من دعمهم ومساندتهم .. وهو الامر الذي يؤكد مرة أخرى على دور الزعيم جمال عبد الناصر فيما حققت ثورة يوليو من إنجازات  .. 


وختاما
ولا يصف هذا الدور ابلغ من كلمات الزعيم  في الميثاق حين حدد عوامل نجاح الثورة بـ:
أولاً: إرادة تغيير ثورى ترفض أى قيد أو حد إلا حقوق الجماهير ومطالبها.
ثانياً: طليعة ثورية مكنتها إرادة التغيير الثورى من سلطة الدولة؛ لتحويلها من خدمة المصالح القائمة إلى خدمة المصالح صاحبة الحق الطبيعى والشرعي؛ وهى مصالح الجماهير.
ثالثاً: وعى عميق بالتاريخ، وأثره على الإنسان المعاصر من ناحية، ومن ناحية أخرى لقدرة هذا الإنسان بدوره على التأثير فى التاريخ.

عوامل ثلاث تمثلت في شخص الزعيم فأفرزت عقدين من الإنجازات عاشت مصر ولا تزال تعيش في ظلالها ، كان الإصلاح الزراعي صفحة متألقة من صفحاتها ، وللحديث بقية ....








[1]  - غالي شكري ، مدخل تمهيدي الى الفكر الناصري ، ص 94-76  مجلة الفكر العربي العدد4 و5 لسنة1978 
[2]  - جمال عبد الناصر – فلسفة الثورة
[3]  - جمال عبد الناصر- الميثاق
[4] - فتحي عبد الفتاح – الناصرية وتجربة الثورة من اعلى – المسألة الزراعية
[5] - طارق والي ، رحلة القاهرة من عصر الولاية الى عصر الاستقلال الوطني
[6] - سامح سعيد عبود  ، نشوء وتاريخ الحركة التعاونية وتطورها ، مقال بموقع الحوار المتمدن-العدد: 4827 - 2015 / 6 / 4 - 20:06
[7] - فتحي عبد الفتاح – الناصرية وتجربة الثورة من اعلى – المسألة الزراعية
[8] - سامح سعيد عبود  ، نشوء وتاريخ الحركة التعاونية وتطورها ، مقال بموقع الحوار المتمدن-العدد: 4827 - 2015 / 6 / 4 - 20:06
[9] فتحي عبد الفتاح – الناصرية وتجربة الثورة من اعلى – المسألة الزراعية ص 38-40
[10] - طارق والي ، رحلة القاهرة من عصر الولاية الى عصر الاستقلال الوطني
[11] - فتحي عبد الفتاح – الناصرية وتجربة الثورة من اعلى – المسألة الزراعية
[12] - فتحي عبد الفتاح – الناصرية وتجربة الثورة من اعلى – المسألة الزراعية
[13] المسح الاجتماعي الشامل للمجتمع المصري 1952-1950- البناء الاقتصادي ص 111-114