بيان 30 مارس 1968 - مقدمة لمرحلة جديدة من النضال الثوري

بيان 30 مارس عام 1968 هو الاسم الذي اختاره الزعيم عبد الناصر لبرنامج العمل الوطني في مرحلة ما بعد النكسة . يراه البعض رد فعل سياسي حكيم لاحداث مظاهرات الطلاب المحتجة على محاكمات النكسة ،ونموذجا يحتذى به للكيفية التي يتعامل بها زعيم مع الشباب . يراه البعض الآخر تصحيح لأخطاء سياسية لنظام الثورة ودليل على قوة عبد الناصر وقدرته على الاعتراف بالخطأ والتراجع عنه .
تلك الرؤى وغيرها بالرغم ما تحتويه من صحة إلا أنها تحصر هذا الحدث في مدى زمني ضيق وتفصل بيان 30 مارس عن السياق العام لمرحلة ما بعد النكسة . وتعزله عما سبقه وما تلاه من تغييرات ثورية في الفكر والتطبيق .وتسقط الهدف الرئيسي للبيان وهو " التطلع إلى المستقبل " .





 فالبيان يأتي مقدمة لمرحلة جديدة من النضال الثوري بدأت في يونيو 1967 واستمرت حتى وفاة الزعيم في سبتمبر 1970 . أطلق عليها عبد الناصر مرحلة إزالة آثار العدوان . والعدوان هنا بكل أوجهه : العدوان العسكري على الأرض ، والعدوان الأيديولوجي المقاوم للثورة ومبادئها ، وعدوان الفاسدين داخل وخارج السلطة .. باختصار ،  ازالة كافة اثار العدوان على الثورة ومسارها . فقد أصبح منهاج " إزالة آثار العدوان " في تلك المرحلة معياراً للثورة يحكم مسارها ويراجع ويعدّل في مواقفها وانجازاتها، ولكنه ظل منهاجاً في الخط الأساسي للثورة ، يرصد بعدها التاريخي العام و التزامها بأهداف الأمة. وكما قال عبدالناصر" نعمل سياسياً ونناضل عسكرياً لدحر العدوان ونظل دائماً تحت نفس الأعلام التي وقف تحتها نضالنا الوطني والقومي... مهما حاولت قوى الاستعمار... ومهما حاولت قوى الاستغلال... سوف نظل دائماً تحت علم التحرير. وسوف نظل دائماً تحت علم الاستقلال الوطني . وسوف نظل دائماً تحت علم الوحدة العربية. وسوف نظل دائما تحت علم الاشتراكية.
لقد كان من الممكن تلخيص  5 يونيو 1967 في الهزيمة العسكرية أمام العدوان الخارجي، المستهدف قبل كل شيء إيقاف انجازات الثورة الجارفة والمهددة عروش الطغيان في مشارق الارض ومغاربها . او كما صاغها الزعيم بكلماته " لابد أن نتحقق من أن الأعداء لا يتكالبون علينا إلا لأنهم يشعرون أننا نتقدم، وإننا نحقق وننجز، لو كنا فى مكاننا قابعين لما اهتم بنا أحد، الحرب ضدنا دليل على سلامة طريقنا، لابد أن نصمم على طريقنا.. طريق التطور الاقتصادي، والتطور الاجتماعي، طريق الاشتراكية. لابد أن نزيل العقبات من طريق النمو". الا ان النظر الى الهزيمة العسكرية وحدها سيكون إنكار للحقيقة . وهي ان صرح الثورة كان مهدد بالانهيار. وانه امام النقطة التي قال عنها المفكر العربي مالك بن نبي : ان كل ثورة تواجه نقطة معينة في تاريخها تبدو فيها  كما لو كانت عجلة الثورة وأفكارها تدور نحو الوراء . وان هذا الانعكاس في الحركة يحدث بسبب انقلاب في القيم ينشأ في ظل الثورة الأصلية ويفسح المجال شيئا فشيئا لثورة مضادة تستخدم اسمها وصفاتها المنظورة ووسائلها لقتل الثورة الاصلية، وتحل محلها، محافظة على المظاهر، التي تصبح الستار الذي خلفه يستمر قلب الاطراد وعكس عجلة الحراك الثوري إلى الوراء .وهكذا ، لقد أظهرت النكسة ان بعد حوالي خمسة عشر عاما من الثورة أن خطر القوى المضادة والمهددة بقلب مسار الثورة داخليا لا يقل عن خطر العدوان الخارجي .وان الاختيار الوحيد أمام الثورة وقائدها هو العمل في مقاومة كلاهما في نفس الوقت .


إن العمل السياسي لا يقوم به الملائكة وإنما يقوم به البشر، والقيادة السياسية ليست سيفاً بتاراً قاطعاً، وإنما هى عملية موازنة وعملية اختيار بعد الموازنة، والموازنة دائماً بين احتمالات مختلفة، والاختيار فى كثير من الظروف بين مخاطر محسوبة.إننا استطعنا - وهذه مسألة أخلاقية ومعنوية أعلق عليها قيمة كبيرة - أن نضع أمام الجماهير- بواسطة المحاكمات العلنية - صورة كاملة انحرافات وأخطاء مرحلة سابقة. وكان رأيى أن هذه مسئولية يجب أن يتحملها نظامنا الثورى بأمانة وشجاعة، وكان رأيى أيضاً أن الضمير الوطنى الذى أحس بأن انحرافات وأخطاء قد وقعت من حقه ومن مصلحته أن يعرف الحقيقة، وأن يخلص وجدانه من أثقالها، وأن ينفض عن نفسه كل رواسب الماضى؛ لكى يدخل إلى المستقبل بصفحة نقية طاهرة. ومع كل العذاب الذي حملته شخصياً وتحمله المواطنون معى خلال هذه العملية، فلقد بقي إيماني ضرورتها كإيمان طب الجراحة يقطع لينظف، ويبتر لينقذ.
بدأت أولى خطوات الموازنة  بالفعل عشية النكسة وعقبها بأيام قليلة. حيث بدأت إجراءات التصحيح السياسي ومحاسبة المسؤولين عن أخطاء النكسة في يونيو 1967,الذي شهد صدور الكثير من القرارات والإجراءات التصحيحية . فمن جهة  : بدأت عملية إعادة تنظيم القوات المسلحة بتغيير القائد العام الجديد وتنحية جميع القيادات التى كانت موجودة فى هذا الوقت. وتغيير العناصر التي استغلت الوضع السياسى للقوات المسلحة، واتخذت من القوات المسلحة وسيلة لكي تجعل من نفسها مركز من مراكز القوى، وأيضاً العناصر التي كانت تقيم من نفسها طبقة عازلة فوق الجيش.وابعاد  العناصر التي أظهرت تجربة الاستعداد عدم كفاءتها، و العناصر التي ثبت بتجربة ميدان القتال أنها غير قادرة على المسؤولية،وكذلك بدأت  إجراءات تصحيح على مستوى الأداء الحكومي بإعادة تشكيل  الوزارة برئاسة عبد الناصر .
ومن جهة أخرى بدأ كذلك  في سبتمبر 1967 إجراء تحقيقات فى إدارة المخابرات العامة و التحقيق مع عبد الحكيم عامر وبعض قيادات القوات المسلحة و حول النكسة العسكرية ثم في١٤ اكتوبر تشكيل محكمة ثورية لمحاكمة الذين تم التحقيق معهم فى قضية محاولة الاستيلاء على القيادة العليا للقوات المسلحة .
و عندما تحركت مظاهرات العمال والطلاب في فبراير 1968 ، احتجاجاً على ضعف الأحكام التي صدرت بحق العسكريين الذين تسببوا بالنكسة،  أعادت تلك الأحداث تأكيد الحقيقة التي باتت واضحة للجميع منذ 9 و 10 يونيو 1967،وهي أن الجماهير المؤمنة بالثورة ومبادئها ما زالت يقظة وتطالب بالتغيير ويطالب بالحساب وأن حركة تلك الجماهير تدفع النظام وعلى رأسه عبد الناصر إلى إعادة تقييم موازين القوى المحركة للمجتمع ، ومراجعة اتجاهاتها بالنسبة للرؤية العامة للثورة.. ولم يكن خفيا أن القوة التي كانت تساند جمال عبد الناصر منذ اندلاع ثورته في يوليو 1952 هي البسطاء من أبناء الشعب العربي وكل المستضعفين في الأرض.وكأن الشارع المصري يؤيد بحراكه التلقائي ايمان عبد الناصر بأن أى نظام ثورة يستند على الجماهير وحدها لا يكفيه أن يكون الشعب وراءه راضياً ومؤيداً، وإنما هو يحتاج إلى أكثر من ذلك؛ يحتاج إلى أن يكون الشعب أمامه موجهاً وقائداً. وانه لا يجوز أن تقع الثورة في تناقض مع الجماهير صاحبة الحق في الثورة وصاحبة المصلحة الحقيقية في الثورة أو أن تقع في تناقض مع العمال أو الطلبة أو مع جماهير الشعب العامل . وهكذا فان كلا من احداث 9و10 يونيو1967 وفبراير1968 اشعلت شرارة الانطلاق لمرحلة جديدة من النضال الوطني لتكتب بهذا الحراك مقدمة فصل جديد من فصول تجربة ثورة يوليو نحو التغيير الشامل .
لم يري جمال عبد الناصر أي غضاضة أو تناقض أن تكون استجابته فورية لمطالب الطلبة. ولم يجري تقييم الاستجابة الفورية على أنها مظهر وإشارة على الضعف، أو على اضطراب العلاقة بين قائد الثورة وقطاع أساسي من جماهير الشعب العربي في مصر، أو أنها انتقصت من قيمة النظام الثوري.كانت ثورة الطلبة هي ثورة في إطار الثورة الأم ثورة يوليو، وعدم الرضا أو التمرد على أوضاع خاطئة امر قد أيده عبد الناصر: " عدم رضا الشباب في رأيي بأعتبره عدم رضا شرعي، وقدامنا ان احنا نختار بالنسبة لشبابنا، أى بالنسبة لمستقبلنا، هل نترك الشباب يعبر عن قلقه المشروع، ويشارك مشاركة إيجابية ويتحول إلى قوة خلاقة؟ أو نصد الشباب وندفعه إلى اليأس.. يصل إلى السلبية المطلقة أو تستبد به انحرافات الحضارة الحديثة؟
وكما كانت استجابته لأحداث يونيو 1967 فورية وحاسمة كانت استجابته لأحداث 24  فبراير أسرع وأكثر حسما " فتمثلت في
اولا: في الاعتراف الفوري بأحقية وشرعية مطالب هؤلاء الشباب وفي أحقيتهم في التعبير عن غضبهم وآرائهم  فأمر بالإفراج فورا عن الطلبة الذين تم التحقيق معهم في تلك الأحداث
وثانيا: الاستجابة والاستجابة لمطالب الشباب الفورية في  الغاء الاحكام في 27 فبراير 1968 وإعادة المحاكمات
وثالثا: في أهمية الحوار معهم لإدراج أفكارهم وآمالهم في والتخطيط لذلك التغيير الشامل الذي فرضته طبيعة المرحلة، فعقد عدد من اللقاءات التي استهدفت الحوار المتبادل بين قائد الثورة وبين الجماهير وقطاع الطلبة حيث قام بتنظيم سلسلة من اللقاءات له شخصيا مع الطلبة وممثليهم ورؤساء اتحادات طلاب في منزله بمنشية البكرى وفي جامعات القاهرة والإسكندرية وعين شمس وأسيوط والأزهر والاتحاد العام لطلبة المعاهد العليا وذلك قبل صدور بيان 30 مارس وبعده ..
إن عبدالناصر أدرك بحسه السياسي أن الأزمة لم تنته بتلبية مطالب الشباب في إعادة المحاكمة، وان الازمة ليست فى حقيقتها أزمة أحكام لم يرتضيها الشباب والشعب. وأن الهزيمة لا ينظر إليها كهزيمة عسكرية مسئول عنها بعض العسكريين فقط ، وإنما هي أزمة حكم .وأن هناك هزيمة سياسية وانحراف عن مسار الثورة ومبادئ نضالها داخل نظامه .و تلك الهزيمة لا يمكن معالجتها بحلول عسكرية، بل بالكشف عن تلك الانحرافات ومحاسبة المسئولين عنها من جهة . ومن جهة اخرى ، فان حراك الشباب التلقائي ضد النظام يشير إلى وعيهم  وإدراكهم بقضايا وطنهم ، ويشير كذلك إلى إحساس هؤلاء الشباب إلى حاجتهم إلى المشاركة بفاعلية أكبر في العمل السياسي ، كما يلفت النظر إلى الخطر الكامن في قلة خبرة هؤلاء الشباب في العمل السياسي والذي  اشار في احدى خطاباته أنه لا يمكن تداركه إلا بالممارسة والتجربة . وكانت النتيجة برنامج عمل تغيير شامل يضع نصب عينيه مبادئ الثورة وميثاقها : " برنامج للتغيير يستجيب للآمال العريضة التى حركت جماهير شعبنا إلى وقفتها الخالدة يومى ٩ و١٠ يونيو، وهي الوقفة التي سأظل دائماً وإلى آخر لحظة فى العمر مؤمناً بأنها كانت بعثاً للثورة، وتجديداً لشبابها، وإلهاماً لا يخيب، وضوءاً لا يخبو أمام طريق المستقبل.
إن التغيير المطلوب يجب أن يكون فكراً أوضح، وحشداً أقوى، وتخطيطاً أدق؛ وبذلك يكون للتصميم معنى، وتكون للإرادة الشعبية مقدرة اجتياح كل العوائق والسدود، نافذة واصلة إلى هدفها.
أيها الإخوة المواطنون:
إن المسئولية التاريخية للأيام العصيبة والمجيدة التى نعيش فيها، ونعيش لها، تطرح بنفسها علينا برنامج عمل له جانبان:
الجانب الأول: حشد كل قوانا العسكرية والاقتصادية والفكرية على خطوطنا مع العدو؛ لتحرير الأرض وتحقيق النصر. الجانب الثانى: تعبئة كل جماهيرنا بما لها من إمكانيات وطاقات كامنة؛ من أجل واجبات التحرير والنصر، ومن أجل آمال ما بعد التحرير والنصر.
الجانب الآخر من برنامج عملنا المقترح، وهو تعبئة كل جماهيرنا بما لها من طاقات وإمكانيات من أجل واجبات التحرير والنصر، ومن أجل آمال ما بعد التحرير والنصر.
لكى يكون هناك ضوء كاف على طريقنا فإننى أريد من الآن أن أضع أمامكم تصورى لبعض المهام الرئيسية فى المرحلة القادمة من نضالنا:
  • تأكيد وتثبيت دور قوى الشعب العاملة وتحالفها وقياداتها فى تحقيق سيطرتها بالديمقراطية على العمل الوطنى فى كافة مجالاته.
  • تدعيم عملية بناء الدولة الحديثة فى مصر، والدولة الحديثة لا تقوم - بعد الديمقراطية - إلا استناداً على العلم والتكنولوجيا؛ ولذلك فإنه من المحتم إنشاء المجالس المتخصصة على المستوى القومى سياسياً وفنياً؛ لكى تساعد على الحكم
  • إعطاء التنمية الشاملة دفعة أكبر فى الصناعة والزراعة لتحقيق رفع مستوى الإنتاج والعمالة الكاملة، مع الضغط على أهمية إدارة المشروعات العامة إدارة اقتصادية وعلمية.
  • العمل على تدعيم القيم الروحية والخلقية، والاهتمام بالشباب وإتاحة الفرصة أمامه للتجربة.
  • إطلاق القوى الخلاقة للحركة النقابية سواء فى نقابات العمال أو نقابات المهنيين.
  • تعميق التلاحم بين جماهير الشعب وبين القوات المسلحة.
  • توفير الحافز الفردى؛ تكريماً لقيمة العمل من ناحية، واحتفاظاً للوطن بطاقاته البشرية القادرة، وإفساح فرصة الأمل أمامها.
  • تحقيق وضع الرجل المناسب فى المكان المناسب."


لقد لخص بيان 30 مارس خطة عمل الإصلاح السياسى الداخلى فى مرحلة ما بعد النكسة ، التي حدد فيها إعادة بناء الاتحاد الاشتراكى وهو التنظيم السياسي الوحيد القائم فى ذلك الوقت وأن يتم ذلك بالانتخابات من القاعدة إلى القمة مما يشرك المجتمع كله من أول القرية إلى المدينة بهذه الانتخابات. مما يفسح مجالا أكبر لتدفق دماء جديدة شابة في العمل السياسي ويضمن لهم الممارسة والتجربة . كذلك تضمن بيان مارس إقامة أربعة مجالس قومية متخصصة: مجلس الدفاع القومي، والمجلس الاقتصادي القومي، والمجلس الاجتماعي القومي، والمجلس الثقافى القومى. وقيام المؤتمر القومى للاتحاد الاشتراكى بعد اجتماعه بوضع مشروع دستور للبلاد تحمى مواده المكتسبات الاشتراكية والضمانات لحرية الرأى والتفكير والنشر والصحافة وحماية الملكيات العامة والتعاونية والخاصة وحدود كل منها بدوره على أن يطرح الدستور للاستفتاء بعد الانتهاء من معركة استعادة الأرض المحتلة.
هذا بالإضافة إلى ما شهدته بالفعل تلك المرحلة الكثير من إجراءات التصحيح الداخلي وإعادة البناء قبل 30 مارس وبعده  أهمها على سبيل المثال لا الحصر : إعادة تشكيل الوزارة و الجديد فيها ضمها وجوها جديدة من النخبة المتخصصة من أساتذة الجامعات كان من بينهم د. عبدالعزيز حجازى وزيرا للخزانة، ود. حلمى مراد وكان معروفا بنشاطه الاجتماعى والسياسى بين الطلبة فى كلية حقوق عين شمس وتولى وزارة التربية والتعليم، ود. أحمد مصطفى للبحث العلمى ود. محمد حافظ غانم للسياحة وغيرهم.بالإضافة إلى تشكيل لجنة لدراسة الإصلاح المالى والاقتصادى، وتبحث موضوع أساسي هو زيادة الإنتاج. وتشكيل اللجنة الوزارية للتخطيط برئاسة عبد الناصر، وقراراً آخر بتنظيم وزارة البحث العلمى وتحديد اختصاصاتها وتكوينها والهيئات والمعاهد التابعة لها واختصاصاتها وإنشاء عدد من الهيئات أبرزها المعهد الفنى للقوات المسلحة، هيئة عامة للطيران المدنى تلحق بوزارة الإنتاج الحربى، ، معهد الدراسات الدبلوماسية بوزارة الخارجية؛ لإعداد وتدريب أعضاء السلكين الدبلوماسى ، الهيئة المصرية العامة للمساحة الجيولوجية والمشروعات التعدينية.
ولقد كان محتماً أن يسير مطلب الصمود الاقتصادى جنباً لجنب مع عملية إعادة بناء القوات المسلحة؛ فلم يكن فى استطاعتنا بغير اقتصاد سليم أن نوفر لاحتمال الحرب، ولا كان مجدياً أن نقف رابضين على خطوط النار بينما مقدرتنا على الإنتاج معطلة وراء الخطوط، وشبح الجوع يهددنا بأسرع من تهديد العدو لنا.
وأثمرت المحاولات الجادة للإصلاح السياسي والاقتصادي عن نتائج سريعة وفعالة، اهمها تحمل ميزانية الدولة أعباء إعادة بناء القوات المسلحة بالإضافة الى الاستمرار في المشروعات القومية الكبرى وعلى رأسها استكمال بناء السد العالي وتشغيله واستكمال تنفيذ جزئي لمشروعات الخطة القومية للتصنيع ، حيث شهد عام 1969 افتتاح عدد من تلك المشروعات أهمها مجمع مصانع الألمونيوم بنجع حمادي - اكبر مجمع لصناعة الالومنيوم في الشرق الاوسط في ذلك الوقت - و مصنع الدرفلة الجديد وغيرها…  وأسفر لاول واخر مرة بتاريخ مصر ان يحقق فائض بالميزان التجاري فى عام 1969 فائضا بمقدار 46.9 مليون جنية (تقرير الامم المتحدة رقم 870 أ ) الصادر فى 5 يناير 1976 ودراسة الاقتصادى السوفيتى لوتسكيفتش عن الوضع الاقتصادى المصرى بالستينات .  
ان تلك المرحلة  يمكن رؤيتها كمرحلة ثانية  لتطور ثورة يوليو ونضجها ، ففي المرحلة الأولى كانت الجهود مكرسة لإنجاز مهمات التحرر الوطني بكل أبعاده السياسية والاجتماعية والاقتصادية، وتصفية مرتكزات النظام القديم السياسية والطبقية وتصفية الوجود الاستعماري وكل ما زرع وخلف ، بل وتصفية القوى السياسية التي كان يرتكز عليها ذلك النظام أو تدور في إطار مرحلته. كما كان التوجه في الوقت ذاته الى تجديد بناء الدولة وترسيخ عملية قيام دولة عصرية حديثة "... التي لا تقوم بعد الديمقراطية، الا استناداً على العلم والتكنولوجيا... ". ، وعلى التخطيط ، وعلى بناء وطن حر وشعب مندمج وطنياً ، وعلى بناء مقومات الشعور بالمواطنية حياتياً ومصلحياً ، والشعور بالمشاركة ووحدة المصير لدى أبناء الشعب الواحد، وفي بناء القاعدة الصناعية والإنتاجية التي تساند هذا التطور على أساس من الاقتصاد الموجه الذي تمسك بزمام المبادرة فيه بالضرورة السلطة الوطنية...أما المرحلة الثانية فكانت إعادة توجيه للانحرافات التي حدثت في مسار الثورة، واستكمال للثورتين السياسية والاجتماعية، بإقصاء ومحاسبة بعض  الفئات الجديدة ممن شهدوا مولد الثورة حملوا رايات مبادئها ، ثم انحرفوا عنها، استسلاما لمطامعهم الشخصية وتحولوا من حماتها إلى أعدائها، والتي يطلق عليها مراكز القوى وتطهير النظام منها.  وفي نفس الوقت افساح الطريق لأجيال جديدة ممن شهدت سنوات الثورة ميلادهم ، اجيال من الشباب الوطني المؤمن بمبادئها وقيمها واحلامها لتشارك في صناعة المستقبل . وكلا الامرين لم يكن بالأمر الهين وخاصة في ظل الضغوط الهائلة التي تعرض لها النضال الثوري بعد النكسة ، ان ما جعل الامر ممكنا  هو ايمانا عميقا في صدر زعيم الثورة بـ"إن النكسات عوارض طارئة فى حياة الشعوب، لكن الشعوب دائماً أقوى من النكسات بإيمانها.. وبثباتها.. وبعملها وبنضالها وبتصميمها على التقدم مهما كانت العوائق.إن هذه الأمة العربية - وشعبنا بين شعوبها - قادرة، وهى أقوى من كل العوارض الطارئة، وهى أبقى من كل هذه العوارض"

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المراجع :
·        جمال عبد الناصر-  بيان 30 مارس 1968
·        جمال عبد الناصر - خطاب الى  مجلس الامة 23 نوفمبر 1967
·        جمال الاتاسي - اطلالة على التجربة الثورية لجمال عبد الناصروعلى فكره الاستراتيجي والتاريخي
·        مالك بن نبي , مشكلة الافكار في العالم الإسلامي
·        محمد فــؤاد المغازي - الثورة ... والثورة المضادة  
·        صلاح منتصر - كيف واجه عبدالناصر الأزمة؟

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق