ومن هنا يطالعنا: كتاب «رحلة القاهرة المحروسة من عصر الولاية الى عصر الاستقلال الوطني» ، للدكتور طارق والي ، مستجيبا لتلك الحاجه . حيث يأتي الكتاب معبرا عن إيمان مؤلفه ان الثقافة وحدة كلية متكاملة وعملية مستمرة تتعدى في وجودها اللحظات الزمنية الانية وتتصل حلقاتها بعضها البعض على مر العصور وطول المكان، وهذا معناه أن تلك الثقافة التي يحملها ضمير المجتمع ويعبر عنها تراثه تنمو وتتطور وتكتسب قدرات جديدة باستمرار. وأنه يتحتم إخضاع الموروثات الفكرية على اختلافها للظروف المعاصرة لها ضمن محدودية الزمان والمكان للعالم أو المفكر أو الكاتب. ثم إخضاع تلك النظريات إذا لزم الأمر أو بعض القضايا والأحكام فيها للفحص والاختبار في ضوء المعطيات والأوضاع الراهنة التي تسود الآن. ويقدم لنا طارق والي من هذا المنطلق رحلة القاهرة المحروسة من خلال منهجية خلدونية تؤمن بأن «إن مشاكل الحاضر تدفعنا إلى الرجوع إلى الماضي، إلى التاريخ، ولكن هذا الأخير يردنا بدوره إلى الحاضر، فالماضي أشبه بالآتي من الماء بالماء – فكما يتوقف فهم الحاضر على الرجوع الى الماضي، يتوقف فهم الماضي على فهم الحاضر.
والكتاب هو مرآه لصاحبه، حيث يعكس هذا الكتاب الكثير من ملامح فكر ورؤية المعماري المصري الدكتور طارق والي وقبل كل ذلك يعكس موقفه من ماهية المعماري : إنه هو المثقف الملتزم بانتمائه لمهنته ووطنه، بعيداً عن الذاتية والمصالح الشخصية والفردية، وممثلاً لطبقته المتوسطة.. هو المعماري الذي يضع علمه ومعرفته في سبيل قضيته لخدمة مجتمعه بكل طوائفه وشرائحه، وخاصة الأقل حظاً في الحصول على حقها في الحياة الكريمة، صاحب المبادرة التي كانت دوماً مسئولية تلك الطبقة المتوسطة على مدى تاريخ حركتنا الوطنية المصرية، كانت وستبقى الطبقة المتوسطة هي القادرة وحدها على الإصلاح والتغيير والبناء دون غيرها أحياناً ومع الآخرين أحياناً أخرى، فهي صاحبة المسئولية التي سيحاسبها عليها التاريخ.
ويمكن القول ان الكتاب قراءة لماضي وحاضر مدينته ومسقط رأسه القاهرة المحروسة. كواحدة ضمن متتابعة لطائف العمران في دراسة المكان والتي تمثل نظرة على حد تعبيره ليست ميتافيزيقية أو حتى صوفية، ولكنها قراءة الذات واستقبال الرسالة بعقلانية تحترم وجدانها؛ تهدف الى أن تقتنص روح المكان والإنسان معاً، روح نابضة بالحياة من حيث إنها مخلوق، تحاول دراسة تلك الروح وفك شفرتها بدون ان تهدر الروح والحياة.. تتطلع إلى أن تعتصر روح المكان والمجتمع، تستقطر الجغرافيا والتاريخ معاً بكل تنويعاتهما وتشعباتهما، حتى تستقطر هذه الشفرة في أدق مقولة مرسلة مقبولة ومعقولة، لتستحق أن تكون منقولة وموروثة.. تضمن الحياة، ولكنها لا تتجمد عندها.. فهي بحيويتها تحمل ديناميكية التغيير والاجتهاد، والاستيعاب، والفهم، والتعقل.. وهذا الكتاب وما يضمه، لا يقف عند حدود وصفية للموجود أو ما كان موجوداً، بل يتعدى ذلك إلى فلسفة الوجود في ذاته للكشف عن القانون الحاكم لهذا الوجود..
وبقدر ما يترجم الكتاب لرؤية طارق والى لدوره كمعماري، يترجم الكتاب لمسيرته الطويلة التي تحاول استخلاص العبر من الموروث الثقافي والتي قدمها في سابق أعماله مثل النظرية العمرانية في العبر الخلدونية ، والمدينة والدولة، نظرية في العمران الإسلامي من الماضي الى المستقبل. واللذان قدم خلالهما نظرية متكاملة للعمران والعوامل الفاعلة فيه من خلال دراسة مقدمة ابن خلدون. او من خلال دراسة وتحليل الموروث العمراني والمعماري العربي في اعمال مثل نهج الواحد في عمارة المساجد، والبيان والتبيان في العمارة والعمران ونهج البواطن في عمارة المساكن. أو من خلال دراستهما معا كما هو الحال في رحلة القاهرة المحروسة. والمحور الرئيسي الذي يجمع تلك الاعمال وغيرها من الاعمال الفكرية او حتى الممارسات المهنية للدكتور طارق والي هو تعمده الواضح لهدم اصنام المنقولات المتوارثة بلا وعي وتصحيح المفاهيم بداية من ماهية العمارة و العمران، وكيف يمكن دراسة عمران مدينة او تاريخها وغيرها من المفاهيم المحورية التي كرس لها طارق والى عقودا من مسيرته في سبيل مناقشتها وتصحيح المغلوط منها، بدأها في العقد الأخير من القرن الماضي لسبر أغوار مدننا العربية، تحت عنوان « لطائف العمران في دراسة المكان « ووصفها بأنها قراءة في تاريخ مجتمع من خلال عمرانه، أو فهم عمران مجتمع خلال تاريخه .
ويتخذ المؤلف لمتتابعة لطائف العمران في دراسة المكان منهجا فكريا، ينسج دورة الحياة الإنسانية للمجتمع وثقافته في نمط الموروث المعرفي الشامل والعمراني المتتابع، ويصف منهجيته بأنها ليست مجرد دراسة ذاتية غير موضوعية.. ولا هي تقريرية أو أحكاماً تقييمية.. إنما يرجو منها وبها أن تكون في جوهرها ومغزاها فاعلة إيجابية ورؤية تتجاوز التقليدية، ولكنها لا تسقط الموروث.. لا تخرج عن منهج المنظومة الثلاثية للعلم والفن والفلسفة، تجمع التاريخ والجغرافيا وتمنحهما الحياة بأبعادهما السياسية والاقتصادية والاجتماعية، فالعمران يعني الوجود ذاته وتلك هي خلافة الله التي حملها الإنسان لعمارة الارض..
ويرى صاحب المتتابعة ان لكل مكان فلسفة وشخصية و لابد في إطار فهم فلسفة المكان وتحديد تلك الشخصية ألا نتناسى أن المعرفة المعمارية والعمرانية هي بطبيعتها تبدو ظاهرياً غير متجانسة متعددة الأصول والجذور متشعبة الفروع، و أن منهج تلك المعرفة يزاوج بين..
العـــــــــلم.. بمادتــــــه وحقائقه..
والفــــــــن.. بإبداعاته ومعالجته..
والفلســـفة.. بنظرتــــها وفكرها..
وهكذا فإن رؤيته تلك تنتقل بالعمارة والعمران من مرحلة المعرفة إلى مرحلة أو حالة الفكر، ومن الحقائق المرصودة أو المنقولة إلى الأفكار الرصينة أو المعقولة، في رحلة معراج من أحصاء الحقائق إلى ذات الحقيقة نفسها، من مشاهدة الحدث وتقريره إلى الكشف عن الحادث وتأصيله وتجذيره ... من الإدراك إلى الإبداع..
وكان من تلك المنهجية ان خرج الى النور كتابه الأول في تلك المتتابعة « المحرق عمران مدينة خليجية» . وكتاب رحلة القاهرة المحروسة هو العمل الثاني في تلك المتتابعة .
ويتبنى الكتاب ذات المنهجية بهدف رسم صورة حقيقية للقاهرة ورحلتها: من عصر الولاية إلى عصر الاستقلال الوطني. ومن خلال بعديها الجغرافي والتاريخي يحلل طارق والي القاهرة المحروسة وموروثاتها المتتابعة السابقة لتلك الرحلة، ثم الرحلة ذاتها وما تحمله من أنساق سياسية واقتصادية وما يرتبط بها من أحداث تاريخية وتأثيرات مجتمعية سواء على المستوى الشمولي خارجياً أو داخلياً، أو على المستوى المحلي التفصيلي يدرس تلك التغيرات كجزء من هذا الموروث المتتابع للمدينة.
ويتناول الكتاب رحلة القاهرة المحروسة في سياقها الزمنى المتتابع من خلال ثلاثة محاور هي:
- الانسان: محور الوجود وقيام العلاقات الحياتية وإطاره المجتمع.
- المكان: محور العمل وضمان بقاء الوجود والحياة وإطاره الدولة.
- الزمان: محور التغيير.. والاستمرارية في الحياة أو الفناء وإطاره العلاقة التبادلية بين المجتمع والدولة.
حيث يحاول في كل مرحلة من مراحل تلك الرحلة استقراء التفاعلات المتبادلة بين المحاور الثلاثة معتمدا في ذلك على قاعدة عريضة من المرجعيات تتمثل في كتابات الرحالة والمؤرخين، خرائط الجغرافيين، ورؤى المستشرقين الفنانين والمصورين، وكتابات الأدباء والدراسات لأصحاب الفكر والفن والعلم الوطنيين. محاولا إعادة تصحيح الكثير من المفاهيم المتعلقة بالمحاور الثلاثة بوجه عام وغيرها من الشائع والمغلوط عن القاهرة المحروسة.
ولا تتسع تلك الصفحات القليلة لعرض مثل هذا العمل الموسوعي، ولكن نكتفي بإلقاء الضوء على بعض ملامح الكتاب من خلال المحاور الثلاثة:
الانسان:
ان الحديث عن الانسان، الذي هو محور وجود القاهرة المحروسة يطرح الكثير من علامات الاستفهام التي تعاملت معها الادبيات السابقة ببعض التسرع وكثير من التحيز، حيث لم يتوقف اغلبها قبل اطلاق المسميات الرنانة التي تنسب القاهرة لهذا او ذاك ، وتلخص موروثها الثقافي الطويل في شخص أو مرحلة ، لم يتوقف اغلبهم ليشرح قاهرة من يقصد :
قاهــرة الخاصة من قلة مسيطرة..
أم قاهـــرة العامة من أكثرية مغلوب على أمرها..
أم قاهـــرة الحراك الاجتماعي والعمراني لطبقات المجتمع في لحظة محددة أو على متوالية زمانية متتابعة
قاهــرة السياسة والدولة المركزية ..
أم قاهـــرة التجارة والاقتصاد وانفتاحه أو انفلاته ..
أم قاهـــرة المواطنين أصحاب الحق والشرعية ..
قاهــرة الحاكم الفرد سواء كان .. مينــا موحد مصر وتأسيس الدولة الأقدم ..
أو عمرو بن العاص والفتح العربي وما تلاه من دولة تكتسب شرعيتها من السلطة الدينية ..
أو صلاح الدين الأيوبي وعودة الروح ومواجهة الآخر وقيام الدولة العسكرية ..
أو الظاهر بيبرس وصد الهمجية وحماية الخلافة العربية ..
أو الغوري ونهاية العصر الوسيط وسقوط الخلافة العربية ..
أو سليم الأول الخليفة العثماني وبداية عصر الولاية ..
أو علي بك الكبير والتطلع إلى الاستقلال ..
أو نابليون بونابرت والغزو الفرنسي الطامع ..
أو محمد علي باشا الوالي والنزعة الفردية التوسعية ..
أو اسماعيل باشا وحلم التغريب ..
أو جمال عبد الناصر الـزعيم والصحوة العربية المنتظرة ..
قاهــرة هؤلاء الأفــــــــــــــراد الحكام ..
أم قاهــرة المجموع المحكومين ، أو المجتمع الحاضر الغائب في حياة المدينة وذاكرتها ..
يتخذ الكتاب موقفا حاسما من تلك يرفض بوضوح اطلاق المسميات التي تصنف القاهرة مرة بالمدينة المعزية او الخديوية والحديثة أو التاريخية وأخرى خارج التصنيف ، و يحدد :
إن تاريخ مصر وعاصمتها الحق والحقيقي ـ ومن وجهة نظرنا ـ هو تاريخ شعبها قبل أن يكون تاريخ ملوكها وحكامها بالرغم من كل محاولات تغييب أو تحقير دور الأمة أو المجتمع ، فالحكام والدول إلى زوال ويبقي الشعب مستقراً في المكان ذاته ومتوارثاً له ، مسئولاً عنه .. مسجلاً تاريخه وعمرانه على المكان ومؤسساً حضارته في الزمان. يرفض طارق والي ان تنسب القاهره المحروسه لفرد الحاكم وان يتلخص تاريخ عمرانها المتتابع في حدود مرحله زمنية أيا كانت.
الزمان
يتعرض الكتاب لرحلة القاهرة الممتدة والمتتابعة عبر الزمن ، وخلال هذه الرحلة محطات أو وقفات أو أحداث بعينها فاصلة في دور المدينة ووجودها وحالتها سواء كانت تلك الأحداث محلية أو إقليمية أو عالمية ؛ يحاول الكتاب إعادة تقديم تلك المحطات في سياق الدور الذي لعبته في سيناريو تتابع رحلة المدينة ، و دورها في تشكيل مورفولوجية القاهرة ، ومنها على سبيل المثال:
سنة 1258 : التحول سياسي في حكم مصر وانتهاء دور الخلافة العباسية العربية ولم يبق منها إلا الصورة الرمزية التي احتضنتها القاهرة لصبغ حكم المماليك بشرعية مفقودة ، وتنامي دور القاهرة السياسي منفردة في المشرق العربي لتصبح عاصمة الشرق مع انقسام الأمة إلى قوميات وأقاليم كان المشرق العربي إحداها وعاصمته القاهرة .. انفتاح اقليمي على المشرق العربي ..
سنة 1517 : سقوط دولة المماليك ونهاية الخلافة العربية رسمياً ، وانتقال الخلافة إلى الآستانة وقيام الخلافة العثمانية التركية لتحل مكان الخلافة العربية ، وتتحول مصر إلى ولاية تابعة للخلافة الجديدة وأمست القاهرة عاصمة الولاية.. انحسار إلى دور محلي ضمن الخلافة التركية ..
سنة 1798 : الحملة الفرنسية على مصر ونزعاتها العسكرية والاستشراقية ، وتوالدت عندئذ النزعات الاستقلالية مع محمد علي باشا وكانت الريادة مع النخب المصرية في القاهرة .. وحينها كان للقاهرة دوراً مغايراً تتنازعها جذورها الاقليمية وانتماءاتها العربية ، وتطلعات حكامها الأوروبية في الغالب ، وكانت الذروة مع مرحلة ولاية اسماعيل باشا ومن بعده توفيق والانتهاء بالاحتلال العسكري الإنجليزي سنة 1882 .. تبعية حضارية للغرب الأوروبي ..
سنة 1923: تنامي الحركة الوطنية المصرية نهاية القرن التاسع عشر مع العرابيين والتنويرين أمثال الشيخ محمد عبده وآخرين ، ومع مطلع القرن العشرين كان تصاعد الحركة الوطنية المصرية والروح الليبرالية في القاهرة حتى نهاية الحرب العالمية الأولى وسقوط الخلافة العثمانية التركية تولدت الدول القطرية في الشرق فيما يشبه الاستقلال الوطني ، وتحولت مصر من ولاية عثمانية إلى دولة قطرية لها وجودها المستقل أسمياً وإن كانت تحت نير السيطرة الأوروبية ..
سنة 1952: مع ثورة 23 يوليو وتنامي التيارات القومية أصبحت القاهرة مركز ونقطة جذب متفردة بموروثها التاريخي والحضاري وقدراتها في قلب الأقليم العربي باختلاف تياراتها .. تنامي دور وطني والعودة لريادة عربية ..
المكان
يتعامل الكتاب مع المكان برؤيا تتعدى الابعاد الجغرافية لتلك البقعة المتفردة بين الجبل والنهر ، رؤيا تطمح ان تكتشف ما يعطي للمكان تفرده وتميزه عن سائر الأمكنة ، و النفاذ إلى روح المكان والإنسان والكشف عن تلك الشخصية المتفردة ..
نستكشف عبقرية المكان والإنسان الذاتية معاً .. تفاعلاً وتجاوباً ..
ومن هذه العبقرية تخرج عمارة وعمران المكان من إبداعات الإنسان كما نفهمها ونصبو إليها ، وعندها كانت دوماً الجدلية بين الثوابت الجغرافية للمكان والمتغيرات التاريخية وأحداثها ..
ويقدم تتبع المكان وتفاعلاته عبر الزمان صورة مركبة ، تتمثل فيها المدينة صاحبة الرحلة
بطبيعتها وعبقريتها وشخصيتها هي مدينة واحدة ..
بحلقـات .. متقــــاطعة أو معزولـــة عن بعضها ..
متداخــــــلة أو متجــاورة مع بعضها ..
متوازنــــة أو متصارعة ضد بعضها ..
ولكنها دون شك كانت دوماً .. ومازالت حلقات موجودة في الزمان وذات المكان ..
ولا يمكن فهم تلك المدينة وعمرانها بدون فك طلاسم تلك الحلقات وهو مفتاح شخصية القاهـرة ..
الرحلة
ان الرؤيا التي يقدمها كتاب رحلة القاهرة لا تقتصر على النظر من زوايا أرحب لمحاور العمران الثلاثة الانسان والمكان والزمان ، ولكن جوهر تلك الرؤيا يتجلى في نسج تلك المحاور لرسم صورة جديدة متجددة للمدينة تتعدى رصد المكان وتوصيفه إلى وجود المكان في ذاته بوجود الإنسان والمجتمع ، وهذه الحلقة المفقودة هي بالدقة وتحديداً روح المكان وجوهر العمران وعمارة الإنسان للمكان .. وتشكل تلك الرؤيا صياغة مدققة لفهم عمران القاهرة حاضرة مصر .. بعيداً عن أي تقييم عمراني أو معماري أو حتى أخلاقي وتاريخي ، فقط محاولة لعودة الذاكرة . او الاستناد على تلك الذاكرة بمرجعياتها المتواترة في فهم رؤية محطات تلك الرحلة على حقيقتها دون تحيز او شوفانية. رحلة شاقة إلا أنها شيقة ، وعرة غير إنها واعدة ، مجهدة لكنها بالقدر نفسه مجزية بل هي حتمية ، ومع طول الرحلة يقتطع الكتاب منها جزءا محدودا: من عصر الولاية إلى عصر الاستقلال الوطني . لما تحمله تلك المحطة من عبر نحن اليوم في أمس الحاجه الى استقراءها واستيعابها .
فهي رحلة تبدأ بالمحطة التي يدعوها الكثيرين بنقطة تحول تاريخي وبالفعل هي ذاك ، فبداية عصر الولاية مع وصول سليم الأول العثماني إلى القـــاهرة نقطة حراك وتحول .. أنحطت خلالها القاهرة أو كادت إلى درجة مدينة تابعة بعد أن كانت عاصمة وحاضرة الشرق ، مرحلة فيها تسقط الخلافة العربية ويسقط مقر السلطة السياسية في القاهرة .
والرحلة يتبادل خلالها الأدوار شخوص بملامح مختلفة واغراض متشابهة ونتائج بالحتمية متقاربة ، حيث دخول سلطان بني عثمان يناظر دخول بونابرت وما تبعه من وصول محمد علي إلى الحكم مع أختلاف الحدث والحادث مرحلتان لعصر الولاية .. مرحلة حملت تحولات سياسية واجتماعية مخططة لخدمة أغراض وأطماع بعضها معلن والأكثر منها مقنع تحت شعارات مختلفة مثل التمدين والحداثة تبدو براقة ولكنه الحق الذي يراد به باطل .. وضعية تسلطية وأعجاب من طرف الغرب بهدف السيطرة والأحتواء الفكري أو التحكم وأستغلال الشرق..
رحلة يصفها الكثيرون وهما بالزمن الجميل، حملت خلالها القاهرة أوزار أحلام النخبة ونزواتهم الخاصة ، و شهدت حراك عمراني دون تنمية مجتمعية .. توسع عمراني في أحياء جديدة خالية.. كثافة سكان ومعدلات أشغال في أراضي معمورة تمثل نسبة محدودة. وهيمنة شركات أجنبية تستغل الولاية وتسخر الرعية، سقطت الدولة ومعها فسد العمران أو كاد ..
رحلة عاشت القـــاهرة خلالها ازدواجية بين القائم الموروث والجديد الوافد.. أحياء قديمــة وأحياء مستحدثة.. فئات وطنية تتطلع للحرية ونخبة مجتمعية موالية للأجنبي ..صراع ومواجهة مجتمع بين فكر ليبرالي وطني وتغريب أستشراقي ..رحلة المدينة والمجتمع بين عصرين أختلفا في الشكل وتطابقا في المضمون .. في البداية والنهاية.
رحلة القـــاهرة من سلطة دولة الفرد المستبد إلى الاحتلال وتسلط الأجنبي الطامع المستغل في النصف الأول من القرن العشرين..
وخلال تلك الرحلة لم يكن المجتمع خامل او خانع ولكن تبلورت ردود أفعاله في صياغة حركة وطنية ليبرالية.. عاش المجتمع تجارب وصراعات.. عرف استقلال وهمي واحتلال واقعي.. زيف وظلم اجتماعي وتبعية اقتصادية وحراك سياسي وطني محاصر ..
أمست القـــاهرة خلال المرحلة بالرغم من ليبراليتها لكن كانت الغلبة لطغيان المصالح والهيمنة الاستعمارية أفراداً وشركات على نواحي الحياة.. وغياب شبه كامل بوعي أو بدون وعي للمصريين في مدينتهم ..
دراما المدينة وصراع المجتمع .. انحرافات وانتكاسات ،تحولات مرت بها المدينة وانتهت بها الحتمية التاريخية إلى سقوط الدولة والتحول إلى عصر الاستقلال الوطني الحقيقي مع ثورة يوليو سنة 1952 .
هكذا يطرح كتاب رحلة القاهرة تلك المسيرة الطويلة ويطرح معها الحاجة الى إعادة النظر في ما تعنيه مصطلحات « النهضة « أو « تحديث مصر « أو ... غيرها والتي لا تعبر بأي حال عن الحقيقة الكاملة بمختلف جوانبها ... ويكشف الكتاب كيف يمكن فهم تحولات المجتمع القاهري من خلال السياق العمراني وما يمكن ان يكشفه ذلك من أبعاد لا يستطيع التاريخ الإجتماعي والسياسي وحده توضيحها ، ويقدم الكتاب تجربة عمران القاهرة ورحلتها بتاثيراتها المتبادلة مع و على الدولة ومؤسساتها السياسية والإدارية السلطوية ، وكذلك على المجتمع ومؤسساته المدنية المجتمعية وبنيته الإجتماعية والديموجرافية ، وبالتالي الإنسان وثقافته وفكره ومعيشته .
ولعل في قمة ما يقدمه كتاب رحلة القاهرة المحروسة من عصر الولاية الى عصر الاستقلال الوطنى هو استقراء الأنساق المتكررة لتلك التحولات المتتابعة المتشابهة وان اختلفت الشخوص والآليات ، نمط متكرر تخوضه المدينة تنتقل خلاله من تنظيم إلى آخر ومن نظام إلى نظام آخر حامله معها نفس مبادئ الجذب والأستبعاد التي تُوجد في الأحياء القديمة بنسيجها الموروث كما تُوجد في الأحياء الجديدة بنسيجها المستحدث ، ولكنها تكتسب أبعاداً مغايرة في الحالتين.
فعلى سبيل المثال، وضح كتاب رحلة القاهرة كيف تسهم التحولات أو الإنقلابات الأقتصادية ومؤسساتها في تشكيل صورة المدينة ، حيث تدفع مصادر دخل البسطاء من العمالة إلى تكوين أحياء شعبية على مقربة منها وتشكل مستقراً للعمالة والسكان محدودي الدخل وما قد يترتب عليه من تجمعات للفئات الأكثر فقراً وتهميشاً في المجتمع ومن الدولة .. وفي المضاد تجذب المؤسسات المالية والشركات الكبرى في أحياء الأعمال تجاور بين النخب من هؤلاء رجال الأعمال والطبقات المتوسطة من الأفندية والموظفين ... وعلى قمة هذا تنعزل الزمرة السياسية الحاكمة .. وفي كل مرة تبتعد وتتخذ لنفسها قاهرة حديثة ثم أخرى أحدث.
أما عن النظم والمؤسسات المجتمعية والمدنية .. يقدم الكتاب كيف تعيش البنية المجتمعية للمجتمع المصري حالة ديناميكية بسبب تغير الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية وكذلك الثقافية ، وحسب ديناميكية المجتمع وقدرته على التطور أو التخلف واجمالاً فإن التركيب الطبقي يتكون من :
إجمـالاً .. يحاول الكتاب ان يوضح الكثير من الحقائق حول عمران القاهرة في تلك المرحلة من رحلتها والتي يمكن وصفها رغم اختلافاتها في الشكل واتفاقها بالمضمون وهو بأنها فترة طغيان المصالح النخبوية وهيمنة المصالح الاجنبية على مصير المدينة وسكانها . مرحلة عانى خلالها غالبية المصريين من الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية المتردية و عدم الأستقرار السياسي وموجة من الانقلابات الدستورية والنيابية أسفرت عن صراعات سياسية متزامنة مع الأزمات الاقتصادية وما نجم عنها من آثار اجتماعية سلبية ، معاناة وقع العبء الاكبر منها على الطبقات الدنيا الذين مثلوا الغالبية العددية لسكان مصر . الكثير من الأوضاع المغلوطة والتي كانت نتيجتها الحتمية هي التحولات الثورية في يوليو 1952 ودخول القاهرة عصر الاستقلال الوطني.
يدعونا كتاب رحلة القاهرة المحروسة «ان نتعدى في رؤيتنا لتلك المدينة وغيرها الصورة المتواترة التي تعبر عن نمط واحد في منظومة متسعة بأتساع التركيبة الإجتماعية والطبقات التي يتشكل منها المجتمع القاهري كله ، وإلى حتمية إعادة النظر في تلك الصورة الضيقة ، وأن نتسع بزاوية الأبصار لنرى الصورة الكاملة على حقيقتها من خلال قراءة العمران في ذروته بالقاهرة العاصمة حاضرة مصر المحروسة ، قراءة قد تصحح المسار وتوقظ الذاكرة والعقل والضمير ، قراءة الذات لأعادة أكتشاف دورنا الحضاري في منطقتنا وعالمنا المعاصر .. قراءة مخلصة وإضافة لفهم تلك الذات ونقدها بموضوعية لنتحول جميعاً مع مصر وقاهرتها إلى هذا الدور الفاعل في جملة هذه الحضارة المعاصرة ، وحتى نورث الأجيال القادمة موروث يبنون عليه مستقبل أفضل بدون نكسات أو إنتكاسات ، فلا يلعننا اللاعنون ويحاسبنا الخالق على ما أقترفناه في حق أنفسنا وفي تقصيرنا لتحملنا الأمانة ..»