المجتمع والعمران ومسألة الهوية

 لعل من اهم الاشكاليات المطروحة على ساحة الفكر الاجتماعي والعمراني المعاصر هي اشكالية الهوية..
و ذلك لأن العمران هو مرآة المجتمع ، والعمارة بل والعمران بأكمله في علاقة تأثير وتأثر بصورة تبادلية عميقة مع المجتمع الذي يولد من أجله  ويعيش داخله .. ينشأ في الاصل بناءا على احتياجات المجتمع ومتطلباته المادية والفكرية والمعنوية .. ويعبر في مضمونه عن ثقافته وتطلعاته وأحلامه .. ويتأثر في نتاجه بمشاكله وآلامه وأحزانه ..
والعمران كيان غير قابل للرؤية خارج اطار مجتمعه فهو يستمد منه كبرياؤه ويهوى ويضعف بضعف موطنه ...
يزداد قوة وانسجاما عند وحدته ويتفتت بعشوائية عند تجزئته ..
 يحمل في ثناياه مبادئ وقيم مجتمعه ويتحلى في ظاهره بسمات ولون وعبق الارض التي يولد ويعيش عليها ..
 واذا كان المجتمع هو تلك التربة التي تأوي بذور العمران حتى تنبت ،  وتؤثر خصوبتها في قوة هذا العمران ،  ويؤدي غناها واصالتها الى نضرة اوراقه وتشعب اغصانه .. فان جذور هذا العمران ومركزثقل الصلة بينه وبين المجتمع هي هويته ..
ولان تلك الجذور تعيش دائما في اعماق المجتمع فانها تتلون بلونه فتجدها تدور في فلك نفس مبادئ المجتمع وتحمل ذات الرسالة التي تتناقل عبر اجيال المجتمع المتتابعة .. وبالتالي فانها تعاني من نفس ارتباكاته وتواجه كل اشكالياته ..
ولعل في تلك العلاقة الوثيقة بين هوية العمارة والعمران  وهوية المجتمع ما يفسر التشوه الواضح لهوية عمراننا المعاصر ويوضح في ذات الوقت لماذا فقدت معالم عمارتنا المعاصرة هويتها ..
فهوية العمران العربي تعاني – تماما كمجتمعنا – من فقدان الوعي بمعنى الهوية وضبابية الرؤية الكلية للماضي والحاضر والمستقبل ، وتئن من التخبط في تيه اشكاليات الاصالة والمعاصرة ، المحلية والعولمة ، الوحدة والتجزئة ، الظاهر والباطن ، المادية والانسانية ... وغيرها الكثير الذي يعاني منه مجتمعنا العربي ..
والهوية التي نعنيها ابعد ماتكون عن تلك الاشكال والزخارف الظاهرية .. انها الانعكاس الصادق للانتماء للذات الانسانية  وطبائعها والمجتمع و قيمه وأعرافه والاحترام العميق للمكان وخصائصه ، والهوية تولد من داخلنا وبداخلنا وتنمو وتتشكل بما نعاصره ولكي تعيش معنا وتواجه تحديات واقعنا فهي تحتاج الى الكثير من المرونة بدرجة تكفي للتوافق مع متغيرات حياتنا ومستجداتها وفي الوقت نفسه الصلابة التي تفرض استمرارية ثوابت قيمنا ومبادئنا  ..
و لعله بات محتما علينا أن نراجع انفسنا لنعي اسباب فقداننا لهويتنا ودور كل منا في هذا الفقد وبالتالي مسئوليته تجاه تجاوز تلك الازمة التي تواجه  مجتمعنا و عمراننا منذ عقود .. 

 لماذا فقد العمران هويته العربية ؟

  ان سر تمزق هوية عمراننا العربي بين اشكالية مثل الاصالة والمعاصرة والمحلية والعولمة هو أمر نشأ بالتدريج كنتيجة للصراع الذي يدور في صدورنا بين هذا المد الحضاري الغربي المعاصر والذي انتقل الى بلادنا رغما عنا بالاستعمار اولا ثم بالهيمنة والسيطرة الاقتصادية مؤخرا وبين تلك الجذور التراثية الاصيلة لمجتمعنا وعمراننا الذي كان يوما ما منارة اشعت ضياءها وجامعة درست علوم العمران للحضارة الغربية بأسرها ..
وما يزيد من حدة هذا الصراع هو ضعف قدرتنا على مواجهته بسبب الاوضاع المتردية عموما في مجتمعنا العربي وحالة فقدان الثقة بالذات التي يعانيها المجتمع ، بسبب تدني ثقافته العربية وتذبذب اوضاعه الاقتصادية وتفكك كياناته الاجتماعية وفساد نظمه السياسية ،  وضياع الاحساس بالانتماء للكيان والثقافة العربية وضياع مفهوم العروبة وما يحمله من اعتزاز بالهوية الجماعية ويرسخه من مبادئ الولاء الواحد والمستقبل الواحد والامة الواحدة والمصير الواحد والهدف الواحد والرؤية الواحدة للآخر وللعالم وبالتالي الهوية الواحدة . الامر الذي ادى حتما الى خروجه من مضمار السباق الحضاري وتحول دوره الى تائه يبحث عمن يتبعه ليعيده مرة اخرى الى صفوف المتباريين فضلا عن أحلامه  الدفينة عن استعادة القمة مرة اخرى .
وطالما عكس عمراننا العربي عامة و المصري خاصة حال امتنا في اوج تألقها ، حيث اتسم بالأصالة والعمق و بالانسجام بين مكوناته والتكامل بين عناصره والارتباط والتوافق مع بيئته ، وبمعمار هادف يحترم  قيم المجتمع و يؤصل لتقاليده  داخل اطار ذو قدرة على الابتكار والتجديد اللانهائي .. تحاكي العلاقات بين عناصره ذات العلاقات المتبادلة بين افراد المجتمع من حيث التكامل فيما بينهم والارتباط بالمكان والانتماء اليه.. وحملت هويته الطرح الحضاري لكل تلك العصور المتباينة التي توالت على بلادنا بصورة تلقائية بلا ادنى افتعال او تكلف حيث نبعت تلك الهوية من الشخصية المصرية التي تشكلت بفعل السنين وبفعل تراكمات ثقافية متعددة اثرت تلك الشخصية واضافت الى اصالتها الاولى ابعادا جديدة .
 وها هوعمراننا يرسم اليوم و بكل وضوح صورة  مذبذبة فاقدة للثقة والانتماء لثقافتنا وحضارتنا بل وتمثل النتاج المادي المؤكد لحالة  التفكك والتابعية التي وصلنا اليها .. فهو يتسم بالانفصال الشديد عن بيئته المحلية سواءا في جغرافيتها او تاريخها  وانكارا لخصوصية وتفردالمكان وتجاهل لظروف ومتطلبات واحتياجات الانسان  ، فيصبح بذلك عمرانا عشوائيا لا انسانيا ..
ولأنه غالبا ما يستورد روحه وطباعه من بيئات اخرى غريبة عن بيئته الاصلية وتتنوع في ذلك التوجهات نظرا لعدم وجود رؤية مجتمعية شمولية لما يود المجتمع لعمرانه ان يكون ، فانك تتجول داخل اي مدينة من مدننا العربية فاذا هي عشرات المدن داخل المدينة الواحدة تختلف فيما بينها اشد الاختلاف في المستوى الاقتصادي والتصاميم المعمارية وشبكة العلاقات العمرانية وغالبا ما تتسم جميعها بالسطحية .   
 واذا كنا سبق واقررنا ان العمران والمجتمع في علاقة تبادلية من التأثير والتأثر وان ما يصلح او يفسد اي منهما يؤدي في النهاية الى اصلاح او افساد صاحبه الا ان اليد الاولى في مراجعة وعلاج مسألة فقدان الهوية والانتماء ينبغي ان تبدأ من المجتمع .

وماذا بعد .. ؟!!

ان حالة التابعية تلك هي مفتاح سر اشكالية فقدان الهوية واصل الصراع حول مسائل مثل الاصالة والمعاصرة والقديم والحديث .. فبحث  المجتمع دائما عمن يتبعه سواء تبع في ذلك عصورا مزدهرة من تاريخه حقق فيها اسلافه امجادا وحضارات أو سواء تبع في ذالك حضارات اخرى غريبة عنه تفرض عليه اليوم تجربتها وتهيمن على رؤيته  بما وصلت ايه من نجاحات  لا يمكن ان يؤدي بأي حال الى الاحوال الى استعادة الاحساس بالانتماء ولا اعادة بناء الهوية الضائعة ..
والجدل حول معنى الهوية وتأويل المبادئ واعادة كتابة القيم لتتماشى مع فكرنا المعطل لن يؤدي بنا او بعمراننا الى تحقيق مرادنا ..
 وخاصة اننا لم نعد نملك الوقت الكافي للتحسر على امجاد الماضي والاستمرار في الجدل حول القديم والجديد ..
أن الهوية  تنبع من وعينا المتأصل بمن نكون اليوم .. وتشوه او ضبابية هذا الوعي هي اصل الداء الذي نعانيه من ضياع لتلك الهوية ..
وبداية الطريق لاستعادة هويتنا المفقودة هي في الاعتراف بالتقصير الجماعي الذي مارسناه في حماية وحدتنا وأصالتنا وحضارتنا  مما لحقها من تحد سافر لاستقلاليتها وتعد على  هويتها ..
علينا كذلك ان نواجه انفسنا بحقيقة ان العالم الواحد الذي نعيش فيه لم يعد للاختيار فيه النصيب الاكبر حيث يفرض الاقوى سيطرته والاصلح هيمنته ولا مجال هنا للمزيد من الشعارات التي تتعلق بما كنا يوما ما بل ان العالم اليوم يبحث عمن نكون اليوم ..
علينا ان نبحث عن ادوارنا - افرادا ومجتمعات – في اعادة التوازن لهذا الوطن العربي الكبير .. ومراجعة رؤيتنا لماضيه ومستقبله .. واستعادة احساسنا بالانتماء لأرضه والفخر بهذا الانتماء ..
وعلينا في الوقت نفسه ان نواجه الازدواجية التي نمارسها في التفكير في ماضينا ومستقبلنا ، ظاهرنا وباطننا والتي تصور لنا ان بالامكان دائما الفصل بين القول والفعل واننا نملك الحق في التباهي بأمجاد أسلافنا وحضارتهم في نفس الوقت الذي نتبع فيه خطى سواهم لتخطي مآزقنا الاقتصادية والسياسية بل والاجتماعية..والعمل على الخروج من دائرة الاختيارات بين الحلول القائمة والاعتراف باننا لا نملك الان ولم نملك يوما ما الاختيار بين ما هو مفروض علينا او ما هو متأصل في نفوسنا واننا لسنا بصدد اختيار واحد من اثنين او في حاجة الى ذلك .. وانما نحن امام ابتكار ثالث ينبع من داخلنا ويعبر عن هويتنا ..
ان مراجعة رؤيتنا لأنفسنا لاستعادة الثقة في الذات والاعتزاز بالثقافة العربية واسترجاع الانتماء الى المجتمع هي الخطوة الاولى في التخلص من التابعية الحضارية التي نحياها منذ قرون والتي تسببت في ضياع هويتنا المجتمعية والعمرانية  .. ربما يسبق تلك الخطوة بقليل استيعاب جوهر الهوية الفردية والمجتمعية ، في ظل كل تلك التراكمات الثقافية الهائلة التي شكلت حضاراتنا السالفة و التي تتصارع اليوم في صدورنا كعرب ومصريين لتفرض وجودها امام الغزو الثقافي المعاصر، وذلك أملا في تصحيح التشوه الذي اصاب ثقافتنا وهويتنا .. والانطلاق من ان تراكمات الماضي تلك هي التي تشكل وعينا بالحاضر وان مجتمعنا المحلي هو الذي يرسم علاقتنا بالعالم بأسره  ولا  يوجد في الواقع حد فاصل بين الماضي والحاضر انما كلاهما يؤدي الى الاخر ويؤثر فيه او عليه  .. والايمان بان حاضرنا هو مزيج من عبق الماضي وحلم المستقبل يحسم قضية الصراع بين الاصالة والمعاصرة بعدم وجود صراع من الاصل كل غير قابل للتجزئة، ولا يقودنا ذلك الا الى ان استعادة الهوية انما هي اشكالية تتعلق بإحياء للجوهر واستعادة لتلك العلاقة التي طالما ربطت بين ثوابت الانسان والمكان في ظلال ذلك المتغير دائما الزمان ..

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق