قراءة في كتاب : نهج البقاء في عمارة الصحراء

كتاب نهج البقاء
الكاتب : طارق والي
الطبعة الثانية 2012
” ليس المقصود ان يكون هذا كتاب في عمارة الصحراء بالمدلول التقني للمصطلح ، ولكنه كلمات ورؤى نستشعر بها رومانسية الصحراء في ابداعيات انسان الصحراء الذي رغب بفطرته أن يكون .. أن يبقى .
ابداعيات هذا الانسان الذي حقق بإرادته هذه الكونية .. وهذا البقاء
انه كتاب في عمارة الصحراء ولكنه الى نهج البقاء
انه نهج البقاء في عمارة الصحراء
بحثا عن واقعية .. وهروبا الى خيال
انه حوار بين القلب والوجدان .. وبين العقل والضمير
فلنسمع ونبصر بقلوبنا وعقولنا
وليشهد علينا وجداننا وضمائرنا  “


بتلك الكلمات يستهل الكاتب صفحات  ” نهج البقاء في عمارة الصحراء ” حيث يصفه بأنه اقرب ما يكون الى إنصات الى تلك المعزوفات التي يلعبها الانسان على اوتار الطبيعة ، انصات يستشعرفيه تفردها و تشابهها ،تجانسها وتناقضها ، عبقريتها وضآلتها ، ثوابتها ومتغيراتها .. انصات يتعدى مفردات تلك المعزوفات من انسان ومكان وزمان.. يتعداهم الى الحلم الذي ينسج من تلك المفردات نهجا الى البقاء ..  ولكن اي بقاء يقصد ؟؟
وهل هناك بقاء على تلك الارض التي تتسم و كل من فوق ثراها بالفناء  ؟؟
نعم هناك بقاء بعد الموت على هذه الارض ..
بقاء لموروثات متراكمة حملها الانسان عن سلفه ليحملها الى خلفه ، انها سلسلة متواصلة الى ما شاء الله ..
بقاء يحققه الانسان عندما يتعدى حلمه الحاجات الفطرية الطبيعية  ، يتعداها بإرادته الانسانية الى احتياجه الى الوجود والبقاء .. وكأنه في ذلك يلبي رغبته التي خلقها الله فيه في امتلاك القوى التي سخرها سبحانه له في هذا الكون ، وتطويع الظروف الخارجة عن محدودية الانسان الى احتياجاته الفردية والجمعية في عمارة الارض ومحورها الحماية من اجل البقاء ..
وحتمية الوجود والبقاء تفرض على الانسان التحدي والانسجام ..
التحدي من اجل الوجود ..
والانسجام من اجل البقاء ..
اذا .. فالفناء المحتوم قد يكون مصير الانسان والمكان ، قد يكون نهاية المادة والمنتج ، ولكن الاكيد ان البقاء دائما للحلم الذي يعبر من زمان الى زمان ، وللفكر الذي يرسم لذلك الحلم نهجا يجعل منه واقعا ملموسا ..
ويستعرض الكاتب في تلك الصفحات لمحات عن انسان الصحراء وعمارته ، في محاولة للاستماع الى ذلك الحوار بين الانسان والصحراء والعمارة والزمان .. يتبادل فيه الاطراف دور المتحدث والمتحكم في من يبقى .. فتارة تلقي الصحراء كلمتها وتفرض وجودها وتحكم سيطرتها ، وتارة أخرى يضع الزمان بصمته ويكتب تاريخه الذي لا يستطيع مقاومته كائن كان ، ومرات أخرى ينجح الانسان بعمارته ان يطلق لحلمه العنان ويتحدى المكان والزمان ويحقق حلمه في البقاء ..
العمارة .. مسيرة تاريخ وتعبير حضارة ، قد تستمر مع الانسان ما استمرت العوارض الذاتية الطبيعية المحركة لها مع تتابع التاريخ واختلاف المجتمعات وتغير الحضارات .. قد تبقى بعد الانسان ما بقيت للانسان ارادة البقاء المشكلة لها رغم تنوع الابداعيات وثراء التشكيلات ، وقد تتجمد العمارة او تقف عند مرحلة تاريخية معينة لفقدانها العوارض الذاتية بتغير طبيعة المكان والزمان ، واختلاف سلوك الانسان وفهمه ووعيه ، بتنازله عن ارادته وهروبه من فطرته .. حتى يعود هذا الانسان فتعود معه وبه العمارة ..
وقد تموت وتندثر العمارة عند نقطة تحول تاريخي او حضاري معينة ، لغياب الانسان او لغياب قدراته على الابداع وفشله في تحمل المسئولية التي حملها راضيا ..
وهكذا دائما العمارة هي ظل الانسان على الارض .. تحمل معها احلامه وتحقق احتياجاته .. ترتقي برقيه وتندثر باندثاره .. تكون احيانا هي الرؤيا وهي الحلم وتكون احيانا مجرد وسيلة او وعاء يحمل الرؤيا والحلم. وبقدر ما تصاحبه في حياته على تلك الارض ، تشاركه طموحاته وتعبر به ومعه من آفاق عالم الى عالم .. ومن رحاب مكان الى مكان .. بل وحتى تتلون كما لون بشرته عندما ينتقل من ظلال الوادي الى قلب الصحراء .. وتتغير كما يتغير تكوين جسده عندما يهاجر من بقعه الى اخرى الا انها  غالبا ما تبقى بعد الانسان لتحكي قصته .. قصة وجوده او غيابه .. علمه او جهله ، عدله او ظلمه . انسجامه او نفوره ..
حقا ان العمارة تبقى دائما بعد رحيل الانسان لتكون شاهدا على رحلته وممثلا لحضارته .. ناقلا لرسالتة عبر الاجيال .. بنفس الصورة التي شكلت فيها في حياته وجدانه ورسمت ملامح علاقته بمن حوله ،، وكانت فيها الناظم والمنظم لعلاقاته بما ومن حوله .. هي الحلقة التي تربط الانسان الفرد بجماعة البشر التي ينتمي اليهم وبالبيئة الطبيعية التي يحيا في ربوعها  .. وتجعل منهما  جميعا نسيجا غير قابل للحل .. والواقع ان الانسان الفرد غير موجود .. وعمارة الانسان هي نتاج اجتماعي يقوم بالتعاون والتفاهم بين افراد الجماعة ، وتتجسد فيها روح المجموع بالرغم من انها تبدو تعبيرا فرديا .. فالعمارة تحمل نفس الجدل الديالكتيكي الذي يعيشه الانسان بين نزعاته الفردية الذاتية واحتياجاته الجمعية.. ويترنم الانسان والمجتمع والبيئة والمكان .. وتبقى لكل هؤلاء عمارتهم .. فتبقى للصحراء عمارتها ، ويبقى لانسان الصحراء عمارته تعبيرا عن ارادته في البقاء ، وتجسيدا لقدرته التي فطره الله بها في تسخير الطبيعة وتطويعها .. تعبيرا عن ذاتيته ومجتمعه وزمانه.. تعبيرا عن انسجامه وتناغمه مع بيئته وتطلعاته ..
وذلك التشابك في العلاقات بين الانسان وبيئته وزمانه وعمارته يجعل من المستحيل حقا فهم اي منهما بمعزل عن الآخر ، كما يستحيل على الاذن الاستمتاع بنغمة منفردة بصورة تنفصل فيها عن السيمفونية التي تحتويها ..
ولهذا للتعرف على تلك السيمفونية الانسانية لعمارة الصحراء يجب ان نتعرف على الصحراء نفسها .. حقيقتها وظروفها .. خصوصيتها وتميزها .. نكتشف تلك القوى الكامنة بها لنخرج بوعي الى فهم الاستيطان الانساني والمجتمعي لهذه الصحراء التي عزف بها وعليها الانسان ترانيمه المعمارية .. انشودة من الظل والنور .. من جدران واسقف .. من قباب وأقبية .. من خشب وطين ..
انشودة بين الزمان والمكان ، وبين الانسان .. انشودة من فطرة وارادة على نهج البقاء .
والصحراء التي نتعرف عليها هنا ، هي تلك الممتدة في مصر غرب الوادي امتدادا للصحراء الافريقية يخترقها النيل ليكون الوادي وتتشكل عنده الحياة والحضارة وتكون مصر ..
 والانسان هنا ، هو الانسان المصري العربي  المستوطن لهذه الارض معمرا في واديها .. وواحاتها ومستقراتها الصحراوية حيث الحياة والموت متوازيان ..
 والعمارة هنا هي تلك العمارة التي استمرت من خلالها المجتمعات تحديا للبقاء .. منتصرة للحياة .. مسخرة كل ما لديها وحولها بإرادتها وفطرتها ..
 عزف هذا الانسان في كل عصر الحانه المعمارية على اوتار الطبيعة المحيطة به ، فانسجمت عمارته في الصحراء مع نفسها الى حد التكرار او التطابق على اختلاف الازمنة .. فالبيئة بظروفها الطبيعية ثابتة ، أو تكاد ..
نعم تغيرت المجتمعات ، وتداولت الحضارات .. واختلفت العمارة ..
وبقيت الصحراء وبقى الانسان وبقي النهج ..   
ونقف هنا عند نهج البقاء في عمارة الصحراء .. نقف في هذا الكتاب نسمع ونرى من تلك السيمفونية الخالدة ترانيم معمارية انسجمت مع بعضها البعض ، تباعدت واختلفت ظروفها الحضارية وتناغمت تردداتها وتشكيلاتها وتكويناتها .
اختلفت ثقافات وحضارات الانسان المبدع لها ..
نسمع ونرى .. ترنيمة تأتي من عبق التاريخ ، من القرن الرابع الميلادي لقرية قبطية .. قرية عاشت في تحدي للاضطهاد الروماني الديني وتحدي للظروف الطبيعية .. لتبقى اكثر من الف وخمسمائة عام ، ويبقى معها الانسان بإرادته ونزوعه نحو البقاء حتى بعد الموت .. ترنيمة الزمان :
نسمع ونرى .. ترنيمة تأتي من حياة المجتمع عاش بها الانسان مرددا واستمر في حياته متطورا ومطورا لعمارته .. عمارة شعبية ابدعها المجتمع والانسان بفطرته ملبيا للمتغيرات .. متحديا للفناء .. ليبقى مئات السنين مستمرا في ابداعياته منذ العصور الاسلامية الوسطى الى اليوم بإرادته ونزوعه نحو البقاء حتى عصر اندثار الحضارات وانقلاب المجتمعات .. ترنيمة الظل والنور :
عمارة الواحات ..
نسمع ونرى .. ترنيمة تأتي من عقل الانسان المبدع .. المعماري الحديث زمانيا والمعاصر ثقافيا وحضاريا ، الذي ادرك وفهم فأبدع وأحسن … احترم عقله ومكانه فاكتسب بارادته  أصالته ومعاصرته .. ابدع عمارته منسجما مع ظروف بيئته واعيا لإمكاناتها ، مسخرا طاقاتها في ابداع عمارة معاصرة لم تفقد اصالتها .. عمارة ابدعها المعماري المصري حسن فتحي وابدع معه وبعده معماريون ، كان المعماري هنا مؤرخا ومنظرا لفلسفة ومبدعا لعمارة اراد بها ان يحقق للانسان رغبته لليوم وغدا في البقاء .. نهجا عاشه  الاجداد ويتطلع اليه الاحفاد   ترنيمة القانون :
واخيرا نسمع ونرى ترنيمة تأتي من خضوع الانسان المعاصر لرغبته في الاستمرار ابدا جزء لا يتجزأ من المجموع الذي يحتويه سواء كان هذا المجموع اسرته او مجتمعه او بيئته الطبيعية .. في ترنيمة معمارية تتجانس العمارة مع الطبيعة دون ان تذوب فيها ويظل الفرد جزء من الجماعة دون ان يفقد تفرده .. كيف يرتبط الإبداع الفردي للعمراني ا بالإبداع المجتمعي وأحلام سكان إحدى مجتمعات الجنوب هناك في أسوان على حافة الصحراء الشرقية في منطقة تسمى ( منطقة الصداقة ) فيما عرف سابقاً بمنطقة الناصرية، وهي المنطقة القادم منها السكان المستوطنين للمكان المهاجرين من بلاد النوبة ..  مهاجرون ومستوطنون أرض جديدة .. حاملون موروثاتهم وثقافاتهم القديمة إينما حلوا أو أستقروا .. نسمع ونرى حوار حول :
هي ترانيم معمارية  اختلفت بها وحولها المجتمعات والظروف والحضارات .. تباينت وتناقضت عندها العصور والثقافات .. وبقي المكان .. الصحراء حقيقة ومعنى ثابتة وراسخة .. يفهمها من اراد البقاء بعمارته من الازل الى الابد .. موروث حضاري ومسيرة انسان بإرادته ونزوعه نحو البقاء
نختار منها اليوم ترنيمه نعيش مع نغماتها لنستكشف ما ستحكيه لنا عن قصة عازفها ، انها ترنيمة القانون : عمارة المنظومات..
عمارة المنظومات ترانيم يعزفها المعماري على اوتار الزمان والمكان ، ارتبطت بمحدودية تلك الاوتار وامكاناتها وطاقاتها .. وخرجت من قبل الزمان والمكان الى ما بعد الزمان والمكان .. من الازل الى الابد .. من المبتدى الى المنتهى .. باقية ما بقيت الحياة هذه الارض وما بقى الانسان  خليفة معمرا ومبدعا في الزمان وعلى المكان .. باقية بقاء القانون ..
ان رواد العمارة المصرية المحدثين في هذا القرن قد اكتشفوا تلك الانساق الخالدة في وجدان المجتمع واكتسبوا من هذا الموروث الحضاري الطاقة والقوة الدافعة لهم نحو آفاق ابداعية يحترم فيها الانسان مكانه وزمانه من موقف عقلاني ، متوازن مع وجدانه .. فأبدع هؤلاء عمارتهم المعاصرة دون ان تفقد اصالتها .. ميزان محسوب كما وضعه سبحانه ..
معماريون ادركوا بعقلهم وحسهم هذا الميزان الرباني في عمارة الكون فأصبحوا معاصرين ثقافيا وحضاريا ، من هؤلاء رمسيس ويصا واصف ، وحسن فتحي وغيرهم ، ابدع الجميع واجتهد كل وقدراته ومعياره الذاتي ، ولقد كان شيخ المعمارين حسن فتحي رائدا لهذه الكوكبة بأبداعياته في عمارة الصحراء .. فجر هذه الحركة المعمارية الحديثة والمعاصرة وسار معه وبعده معماريون على النهج .. فهم البعض القانون .. وقلد البعض التشكيل .. من القانون خرج الاول بتشكيل متجدد لعمارة المنظومات .. ومن التشكيل سقط الآخر بتقليد متجمد لعمارة القباب والقبوات .. يجتهد الاول فيجدد ويقلد الثاني فيتجمد ..
ان عمارة المنظومات نوعا من التشكيل الشعري او البناء الموسيقي تعتمد اساسا على التزاوج بين الفن والخيال من جهة ، بين العلم والعقل من جهة اخرى .. انها مزاوجة بين النقيضين ..
مزاوجة بين سكون الكتلة وديناميكية الفراغات .. بين المفردات والتركيبات .
والعملية الابداعية بطبيعتها تهدف الى حل تلك المعادلة الصعبة لتناغم النقائض ، فهي ميلاد فراغ او مجموعة من فراغات محدودة ومحددة من الفراغ اللانهائي .. الكوني ، هي عملية ميلاد غير محسوم أو نهائي ، فهذا الفصل المادي لا يعني الميلاد النهائي للفراغ والتشكيل الكامل للكتلة ، ولكنها بداية الميلاد المستمر مع حركة الزمان .. هنا يتوالد الحوار المضطرد بين هذا وذاك ، لكل وجوده الذاتي ولكنهما يلتقيان
وبهذه المعرفة تصبح عمارة المنظومات قصيدة من الشعر بقوافي وبحور ، يمكن ان تكون لها موازين شعرية ، يمكن ان تكون لها موازين شعرية ضابطة ومنظمة ، بل هي سيمفونية لحركة الظل والنور .. لحوار الكتلة والخواء ، لصرامة الخط ونعومة المنحنى ، للمرئي واللامرئي ..
كل هذا وصل بعمارة المنظومات لتكون حوارا صوفيا بين الظاهر والباطن تجربة ذاتية عاشت الظاهر وتجاوزته الى الباطن .. الحقيقة .. اخذت من المنهج المعرفي العقلاني مسارا الى الاقصى لتعرج عنده الى آفاق المطلق .. القانون .. الميزان الذي وضعه المبدع الأول والآخر سبحانه الذي أسرى بعبده ..
والعمارة وفقا لهذه التجربة متعددة الدلالة ، وليس لها معنى مسبق او قوالب جامدة .. ترتبط بالمكان والمجتمع والبيئة ، تأخذ من الموروثات الحضارية وتتطور فيها وعنها .. لا تسقط الموروث ولا تتجمد في القوالب .. فالظاهر يخضع للباطن ، والمرئي يستمد وجوده ودلالته من اللامرئي فالاولوية للداخل .. للمنظومة المطلقة التي تشكل الخارج في حدود رؤية واحتياج .. وليس العكس .. وتلك هي المفارقة الابداعية الحضارية : العمارة عندها تكون ابداعا متجددا ، ترتبط بالجذور الحضارية ولا تكون سلسلة من القوالب والانماط .. تكون قضية مؤثرة في حياة الانسان وحضارة المجتمع ، ولا تكون خطابا غوغائيا ساذجا ينتهي دوره قبل ان يبدأ .
والحلم المعماري عند الانسان قد يرتبط بانتفاع أو احتياج مادي أو سيكولوجي .. وترجمة المعماري المبدع هذا الحلم او هذه الاحلام الى واقع مبنى او عمارة باقية ، تنطلق اساسا من البيئة المكانية والمحدودية الزمانية ليكون للعمارة وجودها ويكتب لها البقاء . وهنا تكمن الاشكالية عند المبدع في فهم الحلم وتأويل الرؤيه وصياغة كل هذا في لحنا معماريا معاصرا ومتناغما مع ذاته وحضارة المجتمع الذي ينتمي اليه ..
بمعنى يبدأ دور المعماري المبدع مع حلم الانسان والمجتمع لتشكيل عمارة بجوهرها واصدافها .. بظاهرها وباطنها .. من خلال موازين منظمة للبناء الشعري للعمارة .. او من خلال مذاهب موسيقية وضوابط ايقاعية لألحان تلك العمارة .. او منخلال قوانين منظمة لعمارة المنظومات ..
وهنا في هذا المجال نعرض لتمثيل الفكرة والنظرية لا للحصر او التمايز مشروعا من اعمال المؤلف المعمارية – انطلق من المخزون الموروث لعمارة الصحراء في محاولة للتجديد ، بعيدا عن التقليد .. خروج الى ابداع عمارة على نهج البقاء دون السقوط في المحاكاة أو الجمود .. ” مشروع منتجع سراي السياحي ” على سفح الصحراء الشرقية على شاطئ البحر الاحمر في منطقة الغردقة التي حباها الله  سبحانه بمميزات طبيعية ومناخية تجمع بين رومانسية الصحراء وعذوبة السواحل ..
المكان : نهاية الصحراء أو بداياتها عند ساحل البحر ..
الزمان : نهاية القرن العشرين او بداية القرن القادم ..
الانسان : المصري بكل ما يحمله من ثقافة وموروث حضاري وتطلعات أنية ونظرة مستقبلية .
وهكذا كان الحلم وكانت الرؤية على مستويين ، الأول المستوى الجمعي للكل أنغام وألحان متداخله ومتشابكه تفتح على الافق اللامحدود حيث البحر والصحراء ، وتنغلق على نفسها حيث الذات الداخلية الكامنة .. تتفتت وتتواتر في مجموعات تصاعدية من الداخل الى الأفق بل تشد هذا المجهول الغائب ليكون حاضرا في داخلها .. سواء في الماء بما يحمل من معاني وتعبير للبحر أو في تشكيل الكتل والمسطحات البنائية بما يرمز الى الصحراء .. أما المستوى التالي الذاتي الفردي حيث يتجدد الحلم مع كل انسان يسكن الى المكان فالأنسان متغير .. والمكان ثابت .. وهنا كان الحلم متغير وبالتالي كانت اشكالية هذا الحلم .. وكانت الحتمية في مرونة التشكيل وامكانية التعبير في تراكيب الانغام المعمارية ضمن المنظومة الاساسية او القانون المنظم لهذاا لتشكيل والتركيب المعماري للفراغات والاستعمالات والانتفاعات . يتغير الجوهر من حيث التراتيب ولا يتغير القانون ، كما يتغير الهدف من حيث التراكيب ولا يتغير الانتماء الى المكان الزمان ..
ان التشكيل في حد ذاته ليس غاية بقدر ما هو وسيلة لاحتواء الجوهر ، والمنظومة الهندسية هي القانون المنظم للعملية الابداعية ليحقق التشكيل غايته .. أو هو الوسيلة العقلانية لنقل الفكرة والخيال الى التصميم والواقع .. وفكرة المنظومة الهندسية في العمارة والتصميم ليست بجديدة ولكنها واحدة من اهم الاساسيات والمبادئ التي اقام عليها المبدع عمارته وفلسفته العمرانية .. فالمنظومة الهندسية هي الميزان المنشود بين المعقول والمنقول
ومن هذا المنطلق فإن المنظومة الهندسية تبدأ من الحلم والرؤية وتنتهي الى التصميم .. الى المكان وما بعد المكان ..مع الزمان وما بعد الزمان ..
ان الميلاد الفراغي للعمارة يبدأ من نقطة أساسية تتوالد منها المنظومة الهندسية ، تتفجر منها طاقة تعطي للفراغ وجوده وحيويته ، وبأكتشاف هذه النقطة سواء كانت مادية ملموسة أو ميتافيزيقة محسوسة يمكن تركيب القانون المنظم او ما نسميه بالمنظومة الهندسية .. وهنا تكون النقطة هي مركز النمو الفراغي ومنها او من خلالها تنمو التركيبات والتشكيلات أفقيا ورأسيا ..
وفي مشروع منتجع سراي السياحي كان للوحدة المنفردة قانونها ومنظوماتها الهندسية التي اعطت للتصميم مرونته وحركته المستمرة والمتغيرة .. تتوالد كلها من النقطة المركزية تدور في حركة مستمرة مع ميلاد المربع الاساسي قلب الوحدة وجوهر الحلم .. انه الميزان الذي يحكم حركة البناء الشعري والموسيقي للتصميم والعمارة .. حركة تبدأ من المركز ولا تحدها سوى قدرة الانسان نفسه على الوعي واحتياجه للحدود ..
و القانون في الحقيقة محاكاة للقانون الكوني الاكبر ، فكل فرد منا هو جزء من كيان ومنظومة اكبر منه ، يؤثر فيه ويتأثر به ، يتلون كل منهما بلون صاحبه ، ويترتب بقاء وفناء اي منهما على الآخر ، وهذا القانون هو جوهر العلاقة بين الجزء والكل .. قد يجعل من الاجزاء وحدات كل منها متفرد في حد ذاته وفي الوقت نفسه متجانس مع غيره متكامل معه ناظما بذلك معزوفته التي يطرب لها القلب ويهدأ في رحابها العقل ، أو قد يجعل من الوحدة نسخا نمطية متكررة لا تؤثر في منظومتها بالوجود او الغياب ، لينتج عن ذلك خلق كل من اجزاء متناثرة متناقضة وعزف لمقامات متعارضة ، بل ان تلك الحالة هي اشبه بكسر للقانون وضياع للحلم  .
ان التصميم ليس عملية مبتورة عن ما سبقتها من خطوات على المسار الابداعي ، ولكنها هي ذروة الحركة الابداعية التي يعزفها او يترنم بها المعماري المبدع .. هي التي تخرج بالباطن الى الظاهر .. تشكل الصدف تعبيرا عن الجوهر .. هي في النهاية الواقع المادي الملموس الذي يدركه الجميع على اختلاف ثقافتهم ومستوياتهم ..
وهكذا ، تكون التصميمات الفراغية والتشكيلية نتيجة طبيعية وتلقائية لإخضاع الرؤية المرتبطة بالحلم الانساني للقانون أو المنظومة الهندسية المرتبطة بمكان محدد وزمان معين ..
ويكون بناء تلك التصميمات و الفراغات التشكيلية مرتبطا بثوابت حرفية وتقنيات متاحة ومواد متوفرة في حدود البيئة .. كما انه مرتبط بموروثات حضارية وثقافية للشكل والتكوين . مفردات معمارية يخاطب بها الانسان نفسه ومجتمعه وزمانه ..
وفي مشروع منتجع سراي السياحي يتشكل التصميم من مجموعات سكنية ” اربطة ” متتالية في صفين متوازيين بطول الموقع يتوسطها شريان أو وادي مفتوح يضم العناصر الترفيهية للمنتجع وتضم كل مجموعه ” رباط ” عددا من المساكن تتفاوت تراتيبها ومرونة الاحتياج والتطلعات وتبلغ متوسط الوحدات ما بين 12- 16وحدة اساسية بكل رباط تفتح على ساحة مركزية خاصة بسكن الرباط ،وهي الوسطية بين الوادي العام للكل والفراغ الذاتي للمسكن المنفرد .. تتابع متناغم من الفراغات والتشكيلات المعمارية ، تتلائم و ذلك الموروث المعماري المخزون من عمارة الصحراء وتتناغم مع ترانيم تلك العمارة في اطار من التنظيم والتقنين ..
ان معايشة تجربة مشروع منتجع سراي السياحي واستقراء تلك الترنيمة ” ترنيمة عمارة المنظومات ” وغيرها من الترانيم التي انتظمت داخل صفحات هذا الكتاب انما هي  دعوة ..
دعوة ليتخطى آفاق حلم كل منا سقف زمانه ومكانه…
ويتعدى ببصيرته مدى بصره ..
دعوة لقراءة ما بين السطور واستقراء ما وراء الكلمات ..
دعوة لاقتفاء اثر تلك الترانيم التي جائتنا عابرة ازمانا حاملة في طياتها احلاما تحققت وأخرى لا تزال ، ورسائل خفية تناجي من يتأمل ظاهرها وينصت الى باطنها ، لعله بذلك يخط كلماته الاولى في الرسالة التي سيحملها زمانه عنه يوما ما .
دعوة لان نستكشف تلك المنظومات التي تربط عوالمنا المختلفة ببعضها البعض ،
بل دعوة ليبحث كل منا عن المنظومة الاكبر التي تحتويه وتنتظره لان يقوم بدوره كوحدة مكونة لها ..
ولاستعادة الايمان بقدرة كل منا على تحويل مسار تلك المنظومة من الغياب الى الوجود ، من الاتباع الى الابداع ، من الحلم الى الواقع ، ومن الفناء الى البقاء ..