رائد التنوير المصري في القرن العشرين ..سلامه موسى

سلامه موسى - الصورة عن موقع ويكيبدياشهد الفكر الانساني في القرن التاسع عشر الكثير من المحطات الفاصلة والتحولات الجذرية التي يمكن القول عنها انها شكلت مرحلة التأسيس للفكر الانساني الحديث بوجه عام والفكر العربي – المصري بشكل خاص ..
كانت اولى هذه التحولات تختص بالمنهج ، فقد تغيرت الادوات المعرفية تغييرا طال الاسس والجذور ، وعلى منتصف القرن التاسع عشر حقق المنهج العلمي الجديد قفزات مدهشة ووضع الانسان امام معارف وادوات متجددة .بالاضافة الى طرح المناهج الفلسفية نفسها بصورة جديدة اكثر قربا واهتماما بمعالجة اشكاليات الفكرالانساني المعاصر .
وثاني اهم التحولات - التي قد يجوز القول انها نتجت عن تغيير مناهج التفكير  - هي تكوين رؤية جديدة للعالم والكون واشياؤهما بما في ذلك الانسان نفسه ككائن في هذا العالم . وقد تحرر من الايمان بالخوارق والمعجزات والغيبيات واطلق عنانه ليحلم بما لم يجرؤ الحلم به ..


انتجت التحولات في المنهج والرؤية في القرن التاسع عشرالعديد من الثورات الفكرية وطرحت العديد من التساؤلات وفتحت ابوابا للبحث العلمي والفلسفي كانت الرؤى التقليدية الرجعية قد اوصدتها لقرون طويلة .. ولعل ابرز ما انتج القرن التاسع عشر هي أربع نظريات رئيسية: نظرية داروين في علم الحياة ، ونظرية ماركس في ميدان الاقتصاد والاجتماع ، ونظرية فرويد في نطاق النفس الإنسانية ،ونظرية آينشتاين في الفيزياء والطبيعيات عموما. وقد أصبحت هذه النظريات المحاور التي تدور عليها الحياة الفكرية على مدى قرن كامل من الزمان. ورغم ما يبدو على هذه النظريات من الاختلاف على الأقل في ميادين عملها إلا أن النظرة الفاحصة تستطيع أن تنفذ خلالها جميعا إلى أساس مشترك يربطها بعضها ببعض في مركب ثقافي واحد بحيث يجوز القول عنه بأنه المركب الثقافي الذي .يمثل عصرنا الحاضر وهذا الأساس هو تذويب الفواصل الحادة التي كانت تفصل الأنواع الطبيعية للكائنات بالنسبة لنظرية داروين وتفصل العقل عن اللاعقل أو تفصل الإنسان عن الحيوان في دوافع السلوك بالنسبة لنظرية فرويد وتفصل . طبقات اﻟﻤﺠتمع الواحد بالنسبة لنظرية ماركس ثم بعد أن كانت البشرية تنظر إلى الحقائق العلمية كأنها هي مطلقة اليقين . بغير قيد جاءت نسبية آينشتاين لتجعلها حقائق تتفاوت في درجات احتمالها فباتت أقل صلابة وقطعية `مما  كانت عليه( [1]
واهم ما يميز تلك الفترة انها شكلت مرحلة التأسيس لتحولات فكرية اكبر اتخذت من القرن العشرين مسرحا لها .. وذلك سواء على المستوى العالمي وكذلك على المستوى المحلي ،  حيث عاصرت مصر في نهاية القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين محاولات صحوة متعددة قد تكون فردية لا يمكن تقييمها من حيث كمها الا انها تكتسب اهميتها من التأثير الذي احدثته في المجتمع المصري والعربي ، وانها كونت حجر الاساس  لنهضة فكرية حقيقية شهدت مصر والعالم العربي ومضات منها في بدايات ومنتصف من القرن العشرين ..
  فقد طرحت التحولات السياسية والاجتماعية التي شهدتها مصر في تلك الفترة العديد من الاشكاليات مثل قضية البحث عن الهوية المصرية واشكالية النحياز الى الاصالة او المعاصرة والصراع بين الفكر التقليدي والفكر الحديث .. واثر الاحتكاك المباشر بالفكر الغربي وخاصة انه كان محطة اساسية ومشتركة في تكوين فكر وثقافة غالبية مفكرينا المصريين – اشكاليات اكبر مثل علاقتنا بالغرب وهل تقليد الغرب واتباعه هو الوسيلة الوحيدة للتقدم وبالطبع ظهرت حركات مضادة تتبنى الفكر التقليدي خوفا على الهوية والشخصية المصرية ايقظت محاولات طبع البلاد بطبعة عصرية حركات فكرية كما ايقظت حركات مضادة عند الشعب ، ويمكن وصف هذه التيارات بوجه عام بانها كانت تندرج من تيار متطرف ممثل في تقارب يميل الى الغرب ، الى اخر مناهض للغرب ، اسلامي بحت ، مع تيار وسط يمزج بين التيارين بدرجات متفاوتة . لقد شهد القرن العشرون تغيرا في الموقف : مؤيدون يميلون للغرب ، كانوا في الثلاثينات مصريين وطنيين ، اختاروا تأييد التغريب مع الحفاظ على الدين ، ومجموعة تجنبت كل عقيدة لصالح معالجة المشكلات معالجة علمية ، بينما ظهرت مجموعة جديدة ذات اتجاه ديني خارج الازهر .
ويشترك كل هؤلاء على اختلاف اتجاهاتهم ومواقفهم واحيانا تناقضها في ان جهدهم كان موجها نحو اجابة سؤال : كيف السبيل الى النهضة
يشترك ايضا اغلب مفكري مصر في تلك الفترة في انفتاحهم على الفكر العالمي وتبنيهم مناهج جديدة تعزز من قيم العقلانية والحرية كوسائل اساسية في مواجهة التخلف والتدهور الذي اصاب مجتمعاتنا ، مما دفعهم الى التعمق في مشاكله والبحث في اصولها واعراضها وطرح مواضيع لم تكن دائما موضع قبول عامة المجتمع بل وتفتح ابوابا للنقاش بين المفكرين ، وعرفت بفترة المعارك الفكرية التي كان لا يتوانى فيها اي مفكر في المشاركة في القضايا المطروحة بالنقد والرأي ، وقد انتجت تلك الفترة  فكر يتسم اولا بالمصرية الشديدة وثانيا بالغزارة والتنوع و التصدي بجرأة لاشكاليات الواقع المعاصر .والمبادرة بطرق ابواب جديدة تنقد الفكر الموروث وتطرح بدائل وحلول لمعوقات التقدم المترسخة في المجتمع المصري ولعل  اشهرهم في مجال البحث العلمي العالم الكبير مصطفى مشرفه (1898-1950) الذي  كان أول مصري يحصل على درجة دكتوراة العلوم D.Sc واول مصري يكون عميدا لكلية العلوم بجامعة القاهرة واحد رواد علم دراسة الذرة على المستوى العالميو كان الدكتور مشرفة من المؤمنين بأهمية دور العلم في تقدم الأمم، وذلك بانتشاره بين جميع طوائف الشعب حتى وإن لم يتخصصوا به، لذلك كان اهتمامه منصبا على وضع كتب تلخص وتشرح مبادئ تلك العلوم المعقدة للمواطن العادي البسيط، كي يتمكن من فهمها والتحاور فيها مثل أي من المواضيع الأخرى، وكان يذكر ذلك باستمرار في مقدمات كتبه (4)، والتي كانت تشرح الألغاز العلمية المعقدة ببساطة ووضوح حتى يفهمها جميع الناس حتى من غير المتخصصين من إنجلترا من جامعة لندن 1924.وعلى سبيل المثال لا الحصر يأتي فكر محمد عبده (1844م-1905م) الذي تنوعت أفكاره بين الدين، والعلم، والتربية، والسياسة. وكان نموذج متميزا للمثقف السياسي والسياسي المثقف.الذي سخر حياته  وفكره لربط الإسلام بالتقدم،  مشتغلا في ذلك على تحرير الفكر من قيد التقليد و وخاض معركة الجدل الفكري الشهير حول التوفيق بين التراث والحداثة،ومثل محمود عباس العقاد ( 1889-1964 ) الذي كتب في التاريخ الإنساني والفلسفة والأدب وعلم النفس وعلم الاجتماع، ، ثم زاد على ذلك في الفلسفه والدين.و دافع في كتبه عن الإسلام وعن الإيمان فلسفيا وعن العلم ، ودافع عن الحرية ضد الشيوعية والوجودية والفوضوية،وكتب عن المرأة وعن اللغة العربيه وخاض كثيرا من المعارك الفكريه مع الرافعي و طه حسين وغيرهم . وكذلك زكي نجيب محمود (1905-2000) الاديب الفيلسوف الذي جمع في اعماله بين الدعوه الى المنهج الفلسفي في التفكير وبين مناقشة قضايا معاصرة تتعلق بمقاومة الافكار التقليدية والتحرر من قيود الغيبيات والخرافات ومحاولة حسم قضية الاصالة والمعاصرة وجمع في الكتابة في الادب والفلسفة والدين ، واحمد امين (1886-1954 )الذي جمع بين الكتابة في الدين والفلسفة والتاريخ وكان على الرغم من ايمانه بضرورة التمسك بالتراث العربي واتخاذه للمنهج التقليدي كان من اكبر المناصرين للبحث في علوم الغرب والانتفاع بها وقاد اكبر حملة لترجمه  العلوم والاداب الغربية ..ومن هؤلاء المفكرين : سلامه موسى (1887-1958) المفكر الذي جمع في اعماله بين التاريخ و العلم والدين والفلسفة والسياسة والاقتصاد وكتب  عن التطور والمرأة وعن الحرية وعن اللغة والهوية المصرية والثقافة وعن الاشتراكية والصناعة وخاض في حياته العديد من المعارك الفكرية هاجمه وعارضه فيها العامة والخاصة ولاتزال اعماله الى الان تخوض اكبر المعارك الفكرية في سبيل تحرير العقل المصري من قيد الجهل الخرافة والتقليد ..

"ليس على الارض انسان له الحق في ان يملي على الاخر ما يجب ان يؤمن به او يحرمه من حق التفكير كما يهوى..

سلامه موسى

نشأته

نشأ سلامه موسى في احدى قرى الزقازيق،و بدأ محطته الفكريه الاولى عندما سافر الى اوروبا عام 1906لاستكمال تعليمه لمدة سبع سنوات، بدأت في فرنسا حيث قضى 3 سنوات  تعرف خلالها على فكر فولتير وماركس ثم انتقل إلى إنجلترا لدراسة الحقوق ، وهناك انضم إلى جمعية العقليين، والجمعية الفابية والتقى فيها بالمفكر جورج برنارد شو وتأثر بـتشارلز داروين وخصوصا بنظريته حول النشوء والارتقاء.و  بأفكار الكاتب الإنجليزي جرانت ألين حول الأساس المادي لفهم الكون اللذان كان لهما اكبر الاثر وتبدوا علاماتهما واضحة في بواكير اعماله ..

مسيرته المهنية

بدأ سلامة موسى حياته العملية بالترجمة حيث ترجم رواية " الجريمة والعقاب " لدستوفسكي ونشرها على أجزاء..  وفي عام 1914 أصدر سلامة موسى وشبلي شميل العدد الأول من مجلة " المستقبل" وكانت أول مجلة علمية أدبية أسبوعية تعرفها القاهرة وكانت على غرار المجلات الإنجليزية الفكرية التي اشتهرت بها إنجلترا، كتب سلامة افتتاحيتها قائلاً " أن الغاية من إصدار المستقبل هو التعرف على المعارف العلمية والثقافية التي يهتم بها الأوربيون والتي نحتاجها نحن كي نأخذ عنهم التفكير العصري والموضوعي. وطرح التقليد الأعمى للقدماء في المسائل الثقافية والتخلص من المأزق الذي وضعنا فيه أسلافنا، كي ننظر في تفكيرنا وكتاباتنا إلي المستقبل". ولكن صدر قرار تعطيل المستقبل في منتصف أغسطس عام 1914 بعد أن كان صدر منها 16 عدد فقط ، تبعها عمله لمدة قصيرة في جريدة إلياس زيادة " المحروسة " .
 كما ساهم هو والمؤرخ محمد عبد الله عنان في تأسيس الحزب الاشتراكي المصري عام 1921 ولكنه انسحب منه رافضا الخضوع لأية قيود تنظيمية وذلك إثر خلافات كانت قد أثارتها نقده لثورة أكتوبر، فاعتزل الحياة السياسية، واكتفى بالنشاط الفكري.
 ثم في عام 1923بدأ عمله الهام كمحرر لمجلة الهلال خلفا لجورجي زيدان وظهر بالفعل تأثير سلامة حيث بدأت الهلال تتخذ منحى جديد بالاهتمام بموضوعات الاشتراكية والتطور بدلاً من الوجهة الأدبية والتاريخية التي عهدتها في حياة جورجي زيدان، وظل سلامة محرراً بجريدتي البلاغ والهلال . حتى  أصدر  سلامة في العام 1930 مجلتين أحدهما شهرية وهى " المجلة الجديدة " والأخرى أسبوعية وهى " المصري" يهدف من خلالهما إلى تغليب الاتجاهات العلمية على الثقافة العربية،ويحارب من خلالهما المستبدون والمستعمرون بالإضافة للرجعيون الذين لا يأخذون بالآراء العصرية فيما يخص المرأة وحريتها ومقاومة الغيبيات وبالطبع تعرض بسبب افكاره لانتقادات عنيفه وهجوم كثير ابرزها هجوم الازهر عليه.. وعن تجربته في الصحافة يقول سلامه موسى : " كان في مستطاعي أن أجعل مجلاتي متفرجة محايدة تنشر الخبر والصورة والمقال والقصة وتقرأ للتسلية والترويج على المقهى أو في القطار يتصفحها القاريء فلا يجد ما يبعث فيه حزناً أو غضباً أو حافزاً على عمل أو جهد أو باعث على اتجاه وتسديد إلى هدف وعندئذ كان يكون النجاح العرفي نجاح المال والاقتناء . لكن الصحافة رسالة وهى كفاح وقد كافحت من أجل الدستور وكافحت بالعمل الإيجابي الصالح الباقي، وهو الدعوة إلى التجارة والصناعة المصريتين وكافحت الرجعيون الذين يكرهون العلم ويحتقرون المرأة ويسبون الشباب ، واعتقادي أنني نجحت في كل ذلك وإن كانت مجلاتي قد ماتت ، كان نجاحي صحفياً لكنني فشلت مالياً".

معاركه الفكريه :

كل تلك الصراعات والتنقلات بين فشل ونجاح وصحيفة واخرى لم تؤثر على الانتاج الفكري لسلامه موسى ، حيث انتج خلال مسيرته حوالي اربعين كتابا متنوعة الموضوعات بصورة تجعل الامر من اصعب مايكون محاولة حصرها ووصفها ، ويعبرالانتاج الفكري  لسلامه موسى في مختلف مراحله عن سمات شخصية سلامه موسى و عن الاهداف الفكريه التي خاض من اجلها رحلته الطويلة  ، ويصف سلامه موسى تلك الرحلة بكلماته: حين أتأمل شخصيتي وأهدافي أحس أني أؤدي في مصرفي القرن العشرين ما كان يؤديه رجال النهضة في أوروبا فيما بين سنة ١٤٠٠ وسنة ١٨٠٠ . ولذلك أجد قرابة روحية ونشاطًا رساليٍّا بيني وبين ليوناردو دافنشي، وفولتير، وديدرو ومن إليهم. ومن هنا دعوتي إلى العقل بدلًا من العقيدة، وإلى استقلال الشخصية بدلًا من التقاليد. وربما كان أقرب هؤلاء الناهضين إلى نفسي هو ليوناردو دافنشي؛ فإني مثله في الاعتقاد بأن الذهن الناضج لا يرضيه أن يحد نفسه بحدود الأدب وحده، أو الفلسفة وحدها، أو العلم وحده؛ إذ هو يجمعها كلها ليستقطر منها فلسفة للحياة. وإذا شئت أيها القارئ، زيادة في التفاصيل فاعرف:
  • أني أوُمِن بالحقائق؛ ومن هنا تعلقي بالعلم لأنه حقائق.
  • وإذا كان لا بد من عقيدة فإني أوُمِن بها عندما تكون ثمرة الحقائق العلمية. فإني أعتقد مثلًا بالمستقبل الاشتراكي للعالم كما لمصر وأعمل له؛ لأن الاقتصاديات العصرية تومئ بذلك.
  • وأوُمِن بأنه ليس في الدنيا أو الكون أو المجتمع استقرار؛ لأن التطور هو أساس المادة والأحياء والمجتمعات، أي أساس الوجود. وأن الجمود الاجتماعي هو معارضة آثمة من الأشرار لسنن الكون والحياة.
وقد وصلت في تثقيف ذهني إلى أقصى ما يطمح إليه رجل في سني. ومع أنه لا تزال في نفسي اختمارات سوف تنفجر في المستقبل فإن أهدافي الآن عديدة. وهي إحالة مصر من قطر شرقي ضعيف يحيَا على التقاليد في أساليب الزراعة والعيش إلى قطر أوروبي يحيا على العلم والصناعة واستقلال الشخصية مع الاتجاه الاشتراكي في تنظيم اقتصادنا
واذا كانت تلك الكلمات تعبر ببساطة عن رؤية سلامه موسى لرسالته في الحياه والمبادئ الاساسية التي اعتنقها خلال مسيرته الفكرية فانه قد خاض في سبيل تلك الرسالة العديد من المعارك الفكريا لاقى خلالها هجوما حادا على كافة المستويات وتعرض لمحاولات كثيرة لعرقلته تنوعت بين الهجوم والرد على افكاره من قبل مفكرين اخرين او مؤسسات او ايقافه عن العمل ومنعه من النشر او حتى اعتقاله من قبل الجهات السياسية بعاوى وتهم لاصحة لها سوى انه كان يدفع الناس بكلماته نحو الثورة على الظلم والبحث عن الحرية ، ولا يمكن ياي حال حصر معارك سلامه موسى الفكرية ولكن يمكن المرور على البعض منها على سبيل المثال :
  1. نظرية التطور :

انطلاقا من ايمان سلامه موسى بالحقائق العلمية ، بالاضافة الى الفترة التي قضاها في اوروبا والتي طرحت امام ناظريه الكثير من منجزات ونظريات العلم الحديثة التي سرعان ما اثرت على افكاره ، فقد الزمه حسه الوطني ان ينشر العلم الحديث في بلاده مدركا بانه بذلك يقتحم بقاع ظلت محرمة على الفكر العربي لقرون طويلة ، كان اشهرها اعماله عن نظرية التطور لتشارلز داروين  ، التي تعد واحدة من اكثر النظريات التي لاقت ولا تزال تلاقي جدلا واسعا في الاوساط الفكرية العربية والمصرية ، لان عامة علماء الدين في تلك الفترة - المسلمين منهم والمسيحيين - كانوا يجدون في تلك النظرية تعارضا صريحا مع المعتقدات والثوابت الدينية ،وان الدعوى الى دراسة مثل تلك النظريات وتبنيها هي دعوى لنشر الالحاد  ، الا ان سلامه موسى كان يرى لتلك النظرية بعدا اخر ، يقول عنه وعن اهدافه في نشر ها والتعريف بها : " فلما عدت إلى مصر وجدت أن الوعي الديني أكبر وأعمق من الوعي القومي أو الوطني سواء بين المسلمين أم بين الأقباط. وأحسست عندئذٍ قصدًا آخر هو ضرورة مكافحة الغيبيات بنشر نظرية التطور حتى تأخذ بيِّنة العلم مكان عقيدة الإيمان. وعندئذٍ يجد الشباب وعيًا جديدًا هو الوعي للعلوم المادية الذي يساوي بين أبناء الأمة بل أبناء البشر، ويدعو إلى الوفاق بدلًا من الشقاق."  وعبر سلامه موسى خلال تاريخه الفكري عن قناعته تلك من خلال اعماله بداية من كتابه  مقدمة السوبرمان عام 1910 الذي تضمن نقدا للفكر الديني والإيمان الغيبي، إذ أورد فصلا في هذا الكتاب تحت عنوان "نشوء فكرة الله" ثم كتابه  نشوء فكرة الله(1912) الذي لخص فيه سلامه موسى بحث المفكر " جرانت الين " حول دراسة الظاهرة الإنسانية باعتبارها ظاهرة مادية/ بيولوجية، ليست لها أية أبعاد ميتافيزيقة، وكتاب نظرية التطور وأصل الإنسان 1928وكذلك الانسان قمة التطور 1960 اللذان قدم من خلالهما وناقش نظرية التطور لتشارلز داروين  وتقوم النظرية على افتراض مادي أساسه أن الكائنات الحية عرضة للتطور من خلال التغير على مدار الزمن، هذا التغير يأخذ شكلًا تدريجيًا، حيث تحدث تطورات كمية ونوعية في البنية الأساسية للكائن الحي. ويستند التطور إلى قاعدة حتمية هي؛ أن البقاء للأصلح، وأن التكيف أساس البقاء، بمعنى أن أساس بقاء الكائن الحي مرهون بصلاحيته، وصلاحيته تعتمد بشكل كلي على قدرته على تكييف نفسه مع الواقع من حوله

2- الاشتراكية :

كان سلامه موسى من اوائل الداعين الى الاشتراكية في العالم العربي ، يقول عن رحلته مع الاشتراكية  : وكنت وأنا في لندن قد درست الاشتراكية التي رسمت لي قصدًا نبيلًا عظيمًا ليس لمصر فقط بل للعالم كله. وقد كان من المحال أن نفرض نجاح هذه الدعوة التي كان الإنجليز المستعمرون والباشوات الإقطاعيون يتحدون في مقاومتها. ومع ذلك أنشأنا حزبًا اشتراكيٍّا في ١٩٢١ قتله سعد زغلول. مع أنه لو كان قد تركه لكان وسيلة إلى الدراسات الاقتصادية التي تنحاز في اتجاهها نحو الطبقات الفقيرة في بلادنا. ولكن سعد زغلول كان باشا  وكان هذا التفكير أبعد ما يكون من ذهنه ، ثم وجدت لي قصدًا علميٍّا آخر هو تعميم الصناعة. وظني أني تعلقت بهذا القصد باعتبار الصناعة بديلًا من الاشتراكية. أي بديلًا يغري الأغنياء. ثم تكون هي — أي الصناعة بعد ذلك — وسيلة لتحقيق الاشتراكية. ، وكتب سلامه موسى في 1930 كتابه جيوبنا وجيوب الأجانب  الذي اعلن فيه  أن السبيل الوحيد لتحقيق استقلال حقيقي هو الاستقلال الاقتصادي ، وذلك بأن تتحول مصر من مجرد دولة زراعية تصدِّر — فقط — حاصلات زراعية خامة إلى دولة صناعية تنتج ما تحتاج، بل وتنافس منتجاتها في السوق العالمية. فدعا إلى الاهتمام بالصناعة الوطنية وتشجيعها بشراء المنتج المصري لا الأجنبي، مما سينعكس أيضًا على مشكلة البطالة التي نبَّه إليها وقدَّم حلولًا ونصائح للقضاء عليها، كما أشار إلى المعوقات التي تواجه الصناعة المصرية وسُبُل التغلب عليها في وصفة موجزة . وفي أواخر في سنة 1930 قام سلامة بتكوين جمعية المصري للمصري وتبنت هذه الجمعية مقاطعة البضائع الإنجليزية، و تشترط على أعضائها عدم شراء المنتج الأجنبي مادام هناك ما يقابله من سلع مصرية وبالفعل حققت الجمعية نجاح واستطاعت أن تجعل بنك مصر ينشئي " محل بيع المصنوعات المصرية" ليحتل مكانه في شارع 26 يوليو الذي كان يعج بالمتاجر الأجنبية... وظل في كفاحه من اجل تحقيق الاستقلال الاقتصادي الوطني وتطبيق مبادئ الاشتراكية حتى ثورة يوليو الذي رأى فيها تحقيقا لآماله وتطبيقا لافكاره في الانحياز للشعب وكتب عن ذلك قائلا :  عندي أن الاشتراكية هي التطبيق العملي لمذهب الإنسانية. وقد حققنا من الاشتراكية أساسها الأول وهو الجمهورية بدلًا من الملكية. وقمنا بمكافحة الإقطاع وإيجاد المصانع. وأحس لذلك كأن أشياء كثيرة قد أنجزت من وعد حياتي.، والاشتراكية تعني في النهاية أن الشعب فوق كل شيء. بل هو كل شيء.

3- ما هي النهضة

من اشد معارك سلامه موسى الفكرية تلك التي خاضها والكثير من رفاقه من مفكري مصر في محاولة لكسر الجمود الفكري للمجتمع ومحاربة التقاليد البالية بهدف الحاق مصر بركب الحضارة العالمية مرة اخرى ، وان اتفق سلامه موسى مع رفاقه في تلك الغاية الا ان الوسيلة كانت دائما محل اشد الخلاف ، فقد انقسم الفكر المصري في تلك الفكرة حول علاقتنا بالتراث وعلاقتنا بالغرب ودعا البعض الى العودة للتراث في حين دعا الاخرين الى مقاطعته والاتجاه كلية نحو الغرب ، و كان سلامه موسى من كبار المنادين بالاتجاه الاخير وعن ذلك يقول : “إن أسوأ ما أخشاه أن ننتصر على المستعمرين ونطردهم، وأن ننتصر على المستغلين ونخضعهم، ثم نعجز عن أن نهزم القرون الوسطى في حياتنا، ونعود الى دعوة (عودوا إلى القدماء" وعبر سلامه موسى عن اتجاهه ودعا اليه في الكثير من اعماله سواء التي نقد فيها احوال المجتمع الراهنه او التي دعا فيها الى احداث تغييرات جذرية في الثقافة المصرية لانها هي الخطوة الاولى في تحقيق الحضارة حيث يقول " ان ذاك  أحسن ما يقال في إيضاح الفرق بين الثقافة والحضارة أن الثقافة هي ما نتكون به،والحضارة هي ما نعمل به. والثقافة تسبق الحضارة وتؤدي إليها؛. وكل تحرك اجتماعي يحتاج إلى تحرك ثقافي، وليس هناك غير الأمم الزراعية التي تستطيع أن تعيش على ثقافة راكدة لا تتحرك ولا تتباين ولا تتنوع؛ لأن المجتمع المتحرك يحتاج إلى ثقافة متحركة متباينة متنوعة. ومن هنا ضرورة الانقلاب الثقافي لإيجاد انقلاب في الحضارة، ، وليس من المستطاع أن تأخذ أمةٌ بالحضارة العصرية إذا كانت تعيش على ثقافة قديمة لم تستطع في تاريخها الماضي إلا أن تثمر الحضارة الزراعية فقط؛ لأن كل حضارة تحتاج إلى ثقافة تنشئها ثم تفسرها وتلائمها وتماشيها. وإلا حدث التزعزع الاجتماعي الذي ينشأ من التنافر بين وسط حضاري جديد ووسط ثقافي قديم،
والتغيير الثقافى لدى سلامه موسى لم يكن ابدا تغييرا ظاهريا او جزئيا بل كان يسعى بالفعل الى احداث انقلاب ثقافي يطال كافة اوجه الحياه في المجتمع المصري فقد كان يرى ان " الثقافة تعني العلوم والفنون والعقائد والعادات. ولكنا لم نقل إن الأهم من هذا كله اللغة التي يتفاهم بها الشعب؛ لأن أعظم تراث اجتماعي لأية أمة هو لغتها، وهي أعظم مؤسساتها وأقدرها على خدمتها، وإذا استعصت هذه اللغة على الفهم، أو إذا صعب تعلمها، أو إذا عجزت عن الأداء العصري واستيعاب العلوم والفنون العصرية، فإن كل شيء بعد ذلك يستعصي على الأمة.. ومن هذا المنطلق دعا الى تبنى اللغة العامية واتخاذها لغة رسمية للدولة مما اثار عليه كثير من المفكري واشهرهم العقاد
وجه سلامه موسى فكره نحو احداث هذا التغيير الجذري للمجتمع المصري مجاهدا في كل قضاياه الكبيرة والصغيرة وموجها منذ بواكير اعماله جهده الفكري نحو الفئة الاكثر استعدادا للتغيير وهي فئة الشباب ، وقد كان سلامه موسى عضوا ناشطا في جمعية الشبان المسيحيين استطاع من خلالها ان ينشر الكثير من افكاره ويختلط بالشباب ويوجههم ويدعوهم للعقلانية والحرية كأسس للتقدم ،وللتغيير الثقافي كمعبر وحيد للنقلة الحضارية " لن نبلغ النضج ما لم تكن القراءة — لا بل الدراسة — عادتنا، وما لم ننفق على تثقيف أذهاننا بمثل السخاء الذي ننفق به على شراء حاجاتنا المادية” وكرس في ذلك الكثير من الاعمال سواء التي خاطب بها الشباب مباشرة واقتحم اشكاليات حياتهم مثل  طريق المجد للشباب 1949، في الحياة والأدب 1956،  مشاعل الطريق للشباب1959 ،كيف نربي أنفسنا1964 او من خلال الاعمال التي سعى بها الى تقديم رموز ونماذج عالمية في كل مجالات الحياة والتعريف برواد التاريخو الفلسفة والعلوم والاداب ايمانا منه بدور القدوة في التنشئة مثل كتابه عن غاندي والحركة الهندية  1934، هؤلاء علموني1953 الذي قدم فيه عدد كبير من رموز النهضة الاوروبية في العصر الحديث و  أشهَر الخطب ومشاهير  الخطباء، حرية الفكر وأبطالها في التاريخ1959
على الرغم من اصابع الاتهام التي وجهت كثيرا الى سلامه موسى في حياته وبعد مماته والهجوم الشديد على دعوته الى الاتجاه نحو الغرب والاقتداء به في سبيل التحضر الا ان سلامه موسى يظل رائدا من رواد التنوير المصري في القرن العشرين ،طرق الكثير من القضايا الهامة في تلك الفترة وواجها بجرأة وحرية ،ومنها الكثير من القضايا الشائكة مثل  مسالة التحضر على الطريقة الغربية مع الحفاظ على الهوية المصرية والذي ناقشه في كتابه  أحلام الفلاسفة1926 عن«اليوتوبيا» أو «المدينة الفاضلة». يسعى فيه «سلامة موسى» أن يؤسس يوتوبيا مصرية.  ومسألة اللغة العربية الفصحى ورؤيته لهها كلغة صعبة على عامة الشعب ودعوته للاعتراف باللغة العامية كلغة رسمية وكذلك دعوته في الأدب للشعب 1956 إلى أدبٍ ينطق بلسان الحال السياسية والاجتماعية التي يحياها الإنسان في كل زمانٍ ومكانٍ، ورؤيته لمسالة الهوية المصرية التي كان له فيها باع طويل حيث كتب  مصر أصل الحضارة 1947 الذي يدعو إلى عودة المصريين إلى الهوية الفرعونية. إن سلامة موسى يتحدث في هذا الكتاب عن مفاهيم تؤكد فكرة الاستمرارية البيولوجية كأساس لتحديد الهوية، حيث نجد أنه يتحدث عن (السحنة المصرية، والدم المصري، والسلالة المصرية. ويجمع بين كافة القضايا المتنوعة التي ناقشها سلامه موسى عوامل اساسية  :
  • انها تنبع من قلب المجتمع المصري وتعبر عن احلام المواطن المصري وتطلعاته.
  • تجمع بين الوعي الدقيق لاشكاليات الحاضر المحلي - ان ذاك- وتتعامل معه بقدر شديد من الخصوصية ولكن ولا تفصله في نفس الوقت عن السياق العام للفكر الانساني السائد في بقاع العالم المتحضره .
  • انها بنيت جميعها على الايمان بحتمية التحول الثقافي للمجتمع وان في ذلك المخرج لكافة ازماته المعاصرة ..
  • انها تدعوجميعها الى نبذ الجمود والخرافة والتمسك بالعقلانية واتخاذ العلم والمنهج العلمي سبيلا للتقدم.
  • انها تدعو الى نبذ الفرقة والتوحد حول هدف واحد هو نهضة الوطن وتحضره .
ويجمع كل ذلك ان افكار سلامه موسى  كانت خلاصة جهد وايمان مفكر ثوري حر مؤمن بدوره ودور اقرانه في نهضة بلاده وتقدمها ومؤمن تمام الايمان بقيمة الحرية الفردية والجمعية وابعاد قضايا وطنه ، وان هذا المفكر لم يتوانى خلال عمره عن العمل من اجل قضيته على الرغم من المحاولات الكثيرة من الجهات الرسمية والافراد لتعطيل مسيرته مرات ومرات  .
ان المعارك التي خاضها سلامه موسى في حياته ولا تزال اعماله تواجهها بعد مماته لم تكن قاصرة على هجوم مراكز السلطة لتعارض افكاره التحررية مع مصالحهم ولا مع رموز الفكر التراثي لتعارض افكاره مع المتوارث عليه والتقليدي والمعرف ورموز الفكر الديني لتطرقه الى مواضيع كانت على مدى قرون غير قابلة للطرح والدراسه لتعارضهم - على حسب ظنهم - مع العقائد الدينية ، انما امتدت لتشمل نوعا من القطيعة بين اعماله وبين القارىء العادي ، وان كان هناك سببا رئيسيا لتلك القطيعة فانه الخوف من اقتحام الجديد والالفة لكل ما هو متعارف عليه وتقليدي والجمود في بحر من الابائية لدرجة تجعل كل ما هو جديد مرفوض بدون مراجعه او مناقشة او نقد .
وسواء اتفقنا ام لم نتفق مع افكار سلامه موسى تظل قيمة هذا المفكر الكبير في طرقه للابواب المغلقة بدافع وطني حثه على مدار مسيره فكرية طويلة ان يقدم لمواطنيه كل جديد في مجالات العلوم والفلسفة والفكر الديني والفكر الاجتماعي ، زاهدا عن الربح المادي مكتفيا بزرع بذور من الامل في قلوب الشباب لعلها تثمر ذات يوم ، وينجب المجتمع المصري جيلا جديدا من المفكرين ، لديهم الدافع الوطني لتكريس جهودهم للرقي بمجتمعاتهم ، والجرأة والكفاءة العلمية الكافية لطرق ابواب الجديد في شتى المجالات ..

[1] د معن زيادة – معالم على طريق تحديث الفكر العربي
2- بسنت موسى - سلامه موسى وجانب اخر من حياته , عن موقع الحوار المتمدن
3- موقع مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة ، صفحة عن المفكر سلامه موسى وعرض لـ عدد من اعماله

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق