زكي نجيب محمود .. مسيرة فكريه نحو العقل والحرية

"  كيف جاز لذلك التاريخ الطويل المجيد ، في عزه ومجده ، أن يلد لنا هذا الحاضر في عقمه وذله ؟ "[1]
سؤال نطرحه كثيرا ، نتبادل فيه توجيه اصابع الاتهام نحو التاريخ باحثين بين جنباته عن اسرار تخلفنا وتراجعنا ، ونحو الحاضر لاستخلاص مواطن عقمه واسباب ذله .. اشكالية قديمة قدم التاريخ وعصية كنهضتنا المنشودة .. اشكالية كانت القاسم المشترك بين كثير من مفكرينا الذين حاولوا ايجاد مخرج لامتنا من سقطتها الحضارية ، وجد الكثير منهم اجابتها في مقاطعة التراث ورفضه لما يحتويه على اسباب تخلفنا وتراجعنا ، ووجد غيرهم سبيل النجاة في احيائه والتمسك به والعودة الى زمن الامجاد .. نتوقف اليوم عند واحد من اهم رواد الفكر العربي المعاصر الذي مثلت اشكالية التراث في مسيرته الفكرية محورا رئيسيا هو :  الدكتور . زكي نجيب محمود 1905-2000 " الفيلسوف العربي الذي كرس ما يناهز السبعين عاما من عمره في محاولة حل تلك الاشكاليه ..قد نجد في تجربته اجابة عن التساؤل الذي يطرح نفسه على مجتمعاتنا في المفترق التاريخي الذي نقف عنده منذ عقود..


 مقدمة عن الحراك الفكري المصري

ان الحراك الحضاري لأي مجتمع انساني لا يحدث فجأة أوبدون مقدمات ، صحيح ان الكثير من الأحداث الجسام قد تعمل على تسارع الحركة الحضارية لاي مجتمع سواء الى الامام او الى الخلف الا ان تلك الاحداث نفسها هي حتما نتيجة لعوامل عدة متراكمة لا تقل اهميتها ولا تأثيرها عن الاحداث نفسها . وتاريخ الحركة الفكرية الوطنية في مصر غني بالوقفات الفعالة وبالمفكرين الذين تركو تأثيرا فريدا في تلك الحركة. و تجربة المفكر المصري زكي نجيب محمود تبدأ من قلب الصحوة الفكرية في بدايات القرن العشرين ، وتمثل في مراحلها المتعددة نموذجا للمفكر المصري الذي كرس جهوده لخدمة قضية تقدم الوطن ودفع حضارته الى الامام ، فهو يمثل حلقة من متتابعة حركة فكرية راحت على مدى ثلاثة قرون من الزمان تتوهج ثم تخبو ، قد تكون متنوعة الادوات والمناهج ، الا انها  دوما متوحدة الهدف ، وهو التقدم .. تنسب شرارتها الاولى في القرن التاسع عشر الى  رفاعة الطهطاوي ( 1801-1873 ) الذي لفت انظار المجتمع المصري حينها الى اهمية قيمة الحرية وارتباطها بالتقدم ، بل وجعل الحرية هي المعيار الدقيق لقياس درجات صعودنا فكلما ازدادت الحرية عمقا ، ازداد ارتفاعنا على طريق النهضة درجة بعد درجة ، تبعه  فيما بعد احمد لطفي السيد ( 1872-1936 ) مدعما الحرية   بالعلم بالدعوة لانشاء اول جامعة مصرية ، و الافغاني ( 1839-1897) الذي اضاف الى الدعوة فكرة الاحتكام الى العقل ..
ومع دخول المستعمر البريطاني مصر عام 1882 يبدأ الفكر الوطني مرحلة جديدة تتبلور فيها الدعوة للحرية والعقل ، فيعلو صوت الامام محمد عبده(1849-1905) يناضل ليحرر حياتنا الدينية مما علق بها من خرافة ويجعل الاصل الاول لهذا الدين هو النظر العقلي ، وقاسم امين (1865-1908) بدعوته الى تحرير المراة ، ومصطفى كامل ( 1874-1908) بزعامته السياسية التي اتجهت نحو تحرير البلاد من المستعمر تبعه في ذلك محمد فريد زعيما للحركة الوطنية نحو تحرير الارادة المصرية . واحمد لطفي السيد ( 1872-1963 ) واصراره على رفع مبدأ السيادة للقانون لا للاشخاص وان يحكم الحاكم بارادة الشعب لصالح الجمهور كله لا لصالح طبقة معينة ، وبالممارسة تنضج الحركة الفكرية شيئا فشيئا وتتسع دائرة الدعوة لفكرتي الحرية والعقل . فيدعو سيد درويش ( 1893-1923) الى تحرير الموسيقى وطلعت حرب ( 1867-1942) الى تحرير الاقتصاد وعباس العقاد ( 1889-1964 ) الى تحرير الشعر والفن بصفة عامه ، وعلي عبد الرازق (1888-1966) لتحرير مفهوم الحكومة الاسلامية من تقليد الخلافة ، وطه حسين(1889-1973) يدعو الى الحرية الفكرية بالتزام المنهج العقلي الصرف ،توفيق الحكيم( 1898 -  1987 ) في المسرح ، محمود مختار(1891-1934) في الفن ، حسن فتحي(1900-1989) ورمسيس ويصا(1911-1974) واصف في العمارة ، وغيرهم الكثير مما يعجز المقام عن ذكره .. [2]

البدايــــة

ومن قلب تلك الحركة النابضة نشأ زكي نجيب محمود ، وعلى مدى حوالي مسيرة حافلة بالعمل المضني المستند على ساعدي الحرية والعقل ظل ثمة محورا رئيسيا في مسيرته ثابتا لا يتزعزع وهو الهدف .. التقدم .. كان عقلا يبحث لنفسه عن طريق ، وظل يبحث خلال اعوام الثلاثينات ، انه لم يكف يوما عن القراءة ، ولم يكف يوما عن الكتابة ، لكنه كان حائرا لا يجد مايستريح اليه ، او قل انه كان يستريح للفكره المعينة مرة ، ولنقيضها مرة اخرى ، لقد رأيناه متعلقا بالصوفية يوما ، وبالعلم في صرامة منهجه يوما اخر ، ولكنه من خلال ذلك كله كان يحس في طوية نفسه احساسا فيه قوة وغموض في أن معا ، بأفكار واتجاهات احب الى نفسه من افكار اخرى واتجاهات اخرى ، وكأنما كان في صدره سؤال يتردد وينتظر الجواب : اليس من سبيل يجمع عدة اطراف في رقعة واحدة ؟ يجمع العلم والدين والتصوف والحرية ؟ اليس ثمة من سبيل يجمع مادة الى روح ، ويجمع عقلا الى غريزة ؟؟ [3]

عاش المفكر رحلة البحث عن ذاك السبيل ، بدأها اثناء دراسته  في مرحلة يصفها بانها كانت فترة غنية غاية الغنى ، ثائرة اعنف الثورة ، لما فيها من اعلام مانفكوا يوما بعد يوم يهزون العقول هزا ، بما يعرضونه من أفكار، تبعها بممارسته العملية في ظل تضارب الميول والاتجاهات العقلية المطروحة من حوله  ، فهو يشارك بالتوازي في ثلاثة اتجاهات مختلفة هي :
·  الكتابة في  "المجلة " لـ سلامة موسى( 1887-1958) احد الرواد التنويرين المنتهج قلبا وقالبا الدعوة الى رفض التراث والتحرر منه سبيلا اكيدا نحو التقدم ..
·     الكتابة في مجلة الرسالة لـ أحمد حسن الزيات (1885-1968) الأقرب إلى الفكر الإحيائي الإسلامي ..
·  عمله في لجنة التأليف والترجمة والنشر، مع الأستاذ أحمد أمين( 1887-1954 ) في تصنيف وترجمة أعمال أدبية وفلسفية غربية مهمة شكلت نافذة هامة على الفكر الغربي  ..

الا ان تلك المشاركات المتنوعة لم تتمكن على الرغم من قوتها وتنوعها ان تصيغ امام المفكر الناشئ بداية سبيله نحو التقدم ، ولم تزد الا ان دعمته بضرورة الاستمرار في البحث عن ذاك السبيل ..حتى سافر إلى لندن لنيل رسالة الدكتوراه من جامعتها عام 1944 تحت عنوان "الجبر الذاتي"  التي ناقش فيها مسألة ايمانه المطلق بحرية الانسان وظهر فيها ايضا ايمانه بوجود دور مؤثر وفعال للتراث – الماضي – في حاضر الانسان وان كان ينفي ان ذلك الماضي يشكل رغم ارادة الانسان قيدا يحدد حريته او يحكم اختياراته فيقول " الحرية لا تعني الفوضى او التحرر من القيود ، فتلك حرية سلبية وانما هي حرية ايجابية تظهر في افعال الانسان المنتجة ، وفي اقوال يقام البرهان العقلي على صوابها ، فهي حرية محكومة بالروابط السببية ، الانسان فيها حر الارادة ، لكنه مقيد بماضيه ، او قل ان الجبر الذاتي يعني ان الانسان مجبر عن طريق نفسه ، فماضيه هو الذي يحدد له اختيار الفعل في الحاضر ، لكن هذا الماضي من صنعه هو . 2

وترسم تلك الكلمات من " الجبر الذاتي" ببساطة العقيدة الفكرية  التي صاحبت زكي نجيب محمود طيلة حياته ، ايمانه المطلق بحرية الانسان وان الجانب الايجابي لتلك الحرية هو في تحولها الى فعل ، وهو الامر الذي مارسه زكي نجيب محمود نفسه في رحلته لايجاد سبيل التقدم ، اذ استند الى قدرته على التحرر من الماضي ، ورؤيته التحليلية النقدية لواقعنا العربي المتخلف في الوقت الذي كان يعاين فيه عن قرب الواقع الاوروبي المتقدم . راعه في المجتمع الغربي ما وجده من اعلاء للقيم الاخلاقية وتقديس للثوابت الانسانية واهمها الحرية – لا سيما في فترة اعقاب الحرب العالمية الثانية وهي فترة عسيرة في وصفه  - . مما كان له اكبر تأثير في توجهه نحو اصول تلك الحضارة باحثا في جنباتها عن سبيل تحقيق التقدم المنشود للمجتمع العربي  ، حيث راح يصف موقفه في تلك الفترة " بتعصب شديد لاجابة تقول انه لا امل في حياة فكرية معاصرة الا اذا بترنا التراث بترا ، وعشنا مع من يعيشون عصرنا علما وحضارة ووجهة نظر الى الانسان والعالم[4] ، وحين عدت الى مصر في خريف 1947 كان قد تبلور في ذهني شعبتين : احداهما وجوب الاخذ بروح الثقافة الاوروبية المعاصرة ، لعلها تنتهي بنا الى مثل ما انتهت باصحابها اليه من وضع الانسان الفرد في مكانة تشبه التقديس ، والثانية هي وجوب الدعوة الى التجريبية العلمية ، لانها اذا كانت مجرد اتجاه فلسفي هناك ، فهي بالنسبة للأمة العربية ضرورة 3 لم يبهر زكي نجيب محمود في الحضارة الغربية ادواتها الجديدة ولا مظاهر حياتها المترفة انما بهره الفكر ،  وهو بذلك يعلن قناعته المطلقة ان الفكر هو دافع الحضارة ومولد بقائها  ، وان تقدم العالم العربي مرهون أولا وقبل اي شيئ بإصلاح الفكرالعربي ، وجاء اختياره للمنهج العلمي اختيارا مدروسا واقرب ما يكون كرد فعل مضاد  لاكثر ما يعطل الفكر العربي التقليدي – من وجهة نظره – في تلك الفترة وهو لا عقلانيته  .

المنهج  " مرحلة  المنطق الوضعي  "

"وخرجت يملؤني الايمان بضرورة الاخذ باهم اركان الثقافة الاوروبية التي كان من نتائجها ما رأيته من قيم تعلى من شان الانسان الفرد ، اعلاء يجعل منه كائنا ذا قداسة ، ومن جهة اخرى خرجت على ادراك واضح بان نهوضنا مما نحن فيه من تخلف في ركب الحضارة العصرية ، مرهون بتغيير المنهج ، لتكون الكلمة الأولى والاخيرة للتجربة العلمية في كل ما هو متصل بحقائق العالم الذي نعيش فيه3"

كان من الاتجاهات التي التفت اليها بقوة ووعي ادراكي ان سر تخلفنا العلمي كامن في المنهج ، فبينما يتميز العالم المتقدم باصطناعه للمنهج التجريبي في كشفه للجديد – اولا – وفي معالجته لما يعترض حياته من مشكلات – ثانيا – كنا نحن في مصر – ومانزال حتى اليوم الى حد كبير – نصطنع منهج القرون الوسطى . الذي هو الارتكاز على ما ورد في الكتب القديمة في استخراج احكامنا على الاشخاص والاشياء والمواقف . وفي طريقة معالجتنا لمشكلاتنا او في معالجة الكثير منها . وهو كما نرى فرق كبير في المنهج ، يؤدي الى تقدم من تقدم وتخلف من تخلف 3.

وهكذا دفعته المقارنة الاوليه بين ما يحمله الفكر التراثي - من وجهة نظره في ذلك الوقت – من خرافات وتمسك بافكار فات زمانها وما يدعو اليه الفكر الغربي من اعلاء لقيمة العقل والعلم الى الانضمام لركب المقاطعين للتراث والرافضين لاحيائه وتبني منهجية علمية بحتة في التفكير ترفض الخارج عن المحسوس وتعترف بالمثبت علميا فقط .. وفي كتاب "المنطق الوضعي"بجزئيه: "المنطق الصوري"، و"فلسفة العلم" الصادر عام 1952، صاغ الفيلسوف مانيفستو هذه المرحلة على هذا النحو" أنا مؤمن بالعلم، كافر بهذا اللغو الذي لا يجدي على أصحابه، ولا على الناس شيئاً، وعندي أن الأمة تأخذ بنصيب من المدنية ـ يكثر أو يقل ـ بمقدار ما تأخذ بنصيب من العلم ومنهجه"[5].

ولم يقتصر الامر عند د زكي نجيب محمود على الدعوة الى اتخاذ المنهج التجريبي او محاربة الخرافات الفكرية المتوارثة السائدة في تلك الفترة من خلال اعمال هامة مثل  )خرافة الميتافيزيقيا (1953 ، و(نحو فلسفة علمية (1960 بل انه بدأ بنفسه في تطبيق منهجه في التفكير ، ومنحته الخلفية الثورية للمجتمع المصري في تلك الفترة خير فرصة ليبرهن على فعالية المنهج الذي اختاره ، فقد اتسمت مصر بعد ثورة يوليو، بالتوق نحو التحديث ، والانفتاح الشديد نحو الافكار الجديدة والسعي على ان يكون هذا الجديد عصريا موافقا للروح الثورية المنتشرة في المجتمع والموصلة للمستقبل كما حلم به المصريين وقتها ، وكان لزكي نجيب محمود في تلك الفترة دورا جوهريا ، فقد اساءه ما وجده من اقبال الناس على تبني الافكار والمذاهب المتناقلة دون فهم حقيقي لما تحتويه تلك الافكار،  وكانت تلك الفترة التي اسست فيها مجلة الفكر العربي المعاصر برئاسته مما منحه الفرصة ليخاطب القراء بصفة دورية ، اختار اغلب مواضيعها من الواقع المعاش ، فكان ينتقي احد الافكار او المذاهب المنتشرة بين الناس ويخضعها لادواته التحليلية ليبسطها ويفكك مكوناتها .. ضاربا بذلك اروع مثل في فاعلية اداء المفكر والفيلسوف الثوري الفاعل وارتباطها بواقع المجتمع واحتياجاته الآنية.

المثقف الثوري

وهكذا فقد مثل الفيلسوف زكي نجيب محمود صورة مثالية لما اطلقت عليه مصر الناصرية المثقف الثوري ، وهو المثقف الذي لا يكتفي بثقافته وفكره لنفسه بل يعمل على نشر تلك الثقافة في المجتمع ، بالادوات التي يستطيع المجتمع ان يستوعبها ونحو الجهة التي يحلم بها هذا المجتمع .. وخاصة لما يتبناه المفكر زكي نجيب محمود من رؤى لتحديث مصر ، فظل طيلة عشرين عاما -على حد وصفه- يدعو الى العلم ونبذ عوامل التخلف والجهل ..
وعلى الرغم من كل المجهودات التي بذلها وغيره في دفع المجتمع نحو العلم الا ان ما يراه من ناتج لهذا الدفع ظل لا يشبع رغباته للتغيير الجذري في الفكر العربي ، يصف الفيلسوف  تلك المرحلة ويقول  "  انني لم اكن اقنع بكل ما حدث في حياتنا الفكرية من تغيرات ، كان من شأنها ان تحدث لنا اسسا جديدة في السياسة والاقتصاد والتعليم وبناء المجتمع، وذلك لانني برغم ذلك كله ، فقد رأيتها تغيرات على السطح ، ولم تبلغ من العمق حد الثورة الفكرية التي تبذل لنا وجهة النظر الشاملة ، فمازال الناس – وحتى المثقفون منهم – تميل بهم نفوسهم نحو التشكك في العقل الانساني وقدرته ، وفي العلم ومداه. وعقيدتي ان ثورة فكرية كهذه ، لم تحدث لنا خلال هذا القرن كله ، برغم التغيرات الكثيرة والهامة التي طرأت على صورة الحياة وذلك لأن النمط الفكري القديم باق كما كان دائما . والعجيب الذي يلفت النظر ، هو الفجوة الكائنة بين ذلك النمط الفكري من جهة وتفصيلات الحياة الجديدة من جهة اخرى ، لا تحدث فينا شيئا من القلق او التوتر ، الذي لو حدث ، لحفزنا الى سد الفجوة بالملائمة بين المبادئ العامة وتفصيلات الحياة العملية 3" ما اشبه اليوم بالأمس وكأن د زكي نجيب محمود يكتب هذه الكلمات راصدا به موقفنا اليوم في 2014

اوحى التناقض في مسيرة المجتمع المصري نحو التحديث وتمسك العقل الجمعي بالانماط الفكرية المتوارثة فيه للدكتور زكي نجيب محمود بانه سيظل هناك عنصرا ناقصا ، وستظل الثورة الفكرية ناقصة مادامت اسس الفكر المتوارث برجعيته وجموده ثابتة لا تتزعزع ، ولا سبيل للفعالية الحقيقية للافكار الجديدة لانها ستظل دائما مجرد تغيرات سطحية.  فلم يفوته في تلك الفترة ان يعمل على نقد تلك الافكار التقليدية المتوارثة ومراجعتها وتحليلها ايمانا منه بانه لمن العبث ان يرجو العرب المعاصرون لانفسهم نهوضا او مايشبه النهوض قبل ان يفكوا عن عقولهم تلك القيود ، لتنطلق نشيطة حرة نحو ما هي ساعية الى بلوغه ، انه لا بناء الا بعد ان نزيل الانقاض ونمهد الارض ونحفر للاساس القوي المكين ..4

الا ان احد اهم اعماله التي انتجها في تلك الفترة كان بمثابة نقطة تحول عن موقفه المطلق من التراث ،  وهو كتابه " الشرق الفنان1960 "  الذي تأمل من خلاله وسطية الرؤية الحضارية للشرق الاوسط بالنسبة لكلا من الحضارة الغربية وحضارة الشرق الاقصى ، والذي قدم فيه رؤية تأملية للنظرة الفنية بمعناها الشمولي كوجهة نظر تجمع بين العقل والوجدان، ليجد ان  التاريخ  المجيد لحضارتنا العربية  يحتل مكانة الوسط الذي يجمع بين الرؤية الصوفية الوجدانية لحضارات الشرق الاقصى والرؤية العلمية والعقلية لحضارات الغرب ، مما زرع في نفسه بذرة شك في رفضه المطلق للتراث وطرح امام ناظريه بعدا جديدا للاشكاليه ، فقد زاده ما وجده في الشرق الفنان اعتزازا بتلك الهوية المتفردة ، ومنحه شبه اليقين بان هدم الفكر المتوارث – على ضرورته وحتميته – لايكفي ، لأنه قد يتحقق لنا يوما ما ، فيكون الثمن الذي دفعناه في مقابل ذلك هو انفسنا ، فمن الضروري الحتمي كذلك ان احافظ على هويتي العربية، فينشأ على الفور سؤال محوري هو :
كيف يمكن الجمع بين منهج النظر الذي اتناول به شئون الحياة بما فيها من علوم وصناعات ونظم للحكم والاقتصاد والتعليم وبين ان اظل مصريا عربيا بما يستلزمه هذا الانتماء من نواح في العقيدة واسلوب العيش قد يبدو من الظاهر انه يتناقض مع ما يقتضيه المنهج الجديد ؟؟3

تجديد الفكر العربي

الاصل في الفكر – اذا جرى مجراه الطبيعي المستقيم – هو ان يكون حوارا بين لا ونعم وما يتوسطهما من ظلال واطياف .. فلا الرفض المطلق الاعمى يعد فكرا ، ولا القبول المطلق الاعمى يعد فكرا.. 4
دشن ذلك السؤال مرحلة جديدة في فكر الفيلسوف زكي نجيب محمود ، استلزم معها مراجعة نقدية لموقفه من التراث ، حيث بدأ في السبعينات يرى  إن ترك التراث كله هو انتحار حضاري؛ لأن التراث به لغتنا وآدابنا وقيمنا وجهود علمائنا وأدبائنا وفلاسفتنا ، ويراجع موقفه الذي اتخذه من التراث العربي منذ مطلع شبابه ليكتشف في نفسه قصورا كان له اكبر الاثر في ذلك الموقف يقول عنه : وربما كان دافعي الى ذلك – يقصد موقفه من التراث العربي - هو المامي بشيء من ثقافة اوروبا وامريكا وجهلي بالتراث العربي جهلا يكاد يكون تاما ، والناس - كما قيل بحق - أعداء ما جهلوا . ليصل بعد محاورات ان مشكلة المشكلات في حياتنا الثقافية الراهنة ليست هي : كم أخذنا من ثقافات الغرب وكم ينبغي لنا أن نزيد ، انما المشكلة على الحقيقة هي : كيف نوائم بين ذلك الفكر الوافد الذي بغيره يفلت منا عصرنا او نفلت منه ، وبين تراثنا الذي بغيره تفلت منا عروبتنا او نفلت منها ؟ كيف السبيل الى ثقافة موحده متسقة يعيشها مثقف حي في عصرنا هذا بحيث يندمج فيها المنقول والاصيل في نظره واحده ؟ 4

وكان موقفه ذاك ومار آه في نفسه من قصور في استيعاب التراث العربي واصوله، دافعا وراء تكريسه للقادم من مسيرته الفكرية نحو التنقيب في خبايا التراث العربي، باحثا عن نفس السبيل الذي طالما حاول اقتفاؤه بين ثنايا الحضارة الغربية ، كان دافعه الاول هو ان يتجنب الوقوع في ازمة ضياع هويتنا العربية واندثار ثقافتنا في سبيل تحقيق التقدم ، ويمكن القول ان التوقيت الزمني لمرحلة مراجعة التراث في حياة جاء نمذجيا ، لأنه خاض تجربة المراجعة تلك بعقل ناضج ورؤية شمولية وموقف واضح ومحدد المعالم لما يبحث عنه ، فهو بعد مسيرة تقرب من اربعين سنة من الفكر يعيد قراءة تراثه العربي منطلقا من ايمان بأن  اي شيء في الوجود سيرة ، اي انه تاريخ ، يتألف من حالات – تختلف او تتشابه – يعقب بعضها بعضا في تلاحق سريع . الامر اشبه بمعزوفه موسيقية .. امتداد زمني تتوالى فيه الانغام ولكن لكل نغمه وجودها الخاص . وفي كوننا واحد من تلك الحالات التي تتغير وتتلاحق متتابعة ، وليس في ذلك مايدل على التقدم . اذ لابد لنا من اضافة نضيفها الى مجرد التغير لنجعل منه تقدما ، فماذا نضيف ؟ الجواب في كلمه واحدة " الهدف " الواحد – التوحد النسبي للهدف1

ولان هدفه في رحلته البحثية الجديدة لا يزال هو التقدم وادواته هي منظار الحرية والعقل فقد  ووضع على حد قوله لنفسه ميزانا يقيم به التراث وهو مقياس العقل ، يستطيع من خلاله متحررا من اي عواطف تربطه بالتراث ان يقيم ما اذا كان استعادة هذا الجانب من التراث او اعادة صياغة ذاك قد يدفعنا نحو تحقيق هدفنا في التقدم والتحديث دون ان نفقد هويتنا ، ليجد ان النظرة العقلية للامور كانت هي الرابط الاقوى بين كل مواطن القوة في تراثنا العربي وان فيها مخرج الازمة ومفتاح حل اشكالية ماذا نأخذ من التراث وماذا نترك فيطرح في عمله الاشهر (تجديد الفكر العربي1973) :   فاذا اخذنا عن الاسلاف منظار العقل الذي استخدموه وهم اشداء اقوياء ، انبثقت لنا على الفور اسس جديدة نقيم عليها حياتنا الفكرية بدل الاسس السائدة ، والاسس الجديدة المرجوة هي اسس الحوار الحر الذي تتعادل فيه قامات الناس وان تفاوتوا بعد ذلك في سداد الرأي وقوة الحجة واما الاسس التي نريد لها الزوال فهي تلك التي تجيء فيها الفكرة من عال لتهبط كالقدر على رؤوس الناس ، وعندئذ يكون الصواب هو المعيار الذي تمليه تلك الفكرة والخطأ هو الجراة على مناقشتها .. 4 ، وعلى طبيعة د زكي نجيب محمود ، تبع عمله تجديد الفكر العربي العديد من المحاولات التطبيقية التي انهال بها على تراثنا العربي نقدا وتحليلا وتفكيكا ومراجعة ، تطبيقا لنظريته عن اعمال العقل في التراث واتخاذ ما يلزمنا منه واصدر اولى تطبيقاته العملية (المعقول واللا معقول في تراثنا الفكري1975) وغيره الكثير من الاعمال التي حاول بها تاكيد فعالية رؤيته الجديدة للتراث ،ويصف مؤرخي الفكر العربي تلك الفترة من اعمال نجيب محمود في ذلك الصدد بأنها ريادة لما سمي  بالحركة التوفيقية التي سعت لايجاد صيغة متوازنة لفكر عربي اصيل ومعاصر في الوقت نفسه ، واستطاع زكي نجيب محمود في ما يقرب من خمسه وعشرين عملا فكريا ان يضرب لها المثل الحي على امكانية تحقيقه ببراعة ونضج فكري منقطع النظير ..مؤسسا لثورة فكرية نحو تجديد الفكر العربي وتغيير المجتمع نستطيع ببالغ الاسف ان نقول عنها اليوم انها بدأت وتوقفت عند د زكي نجيب محمود ..

اين نحن من فكر زكي نجيب محمود ؟

 من المفارقات التي تحتم التأمل في رحلة الدكتور زكي نجيب محمود الفكرية اننا على اعتاب القرن الثالث منذ بعثة روح النهضة الثقافية في مصر و العالم العربي على يد رفاعة الطهطاوي في القرن التاسع عشر ، في نفس الوقفة التي  وقفها المفكر الراحل زكي نجيب محمود متابعا مسيرة  التجديد الفكري  في القرن العشرين ليعلن بكل اسى ان الاعوام المائة التي تقع بين الوقفتين – القرن التاسع عشر والقرن العشرين - لم تغير مما ارادته النهضة الثقافية لنفسها ، فهي تريد قناتين تنتهيان الى ثالثة تغذيانها بما تحملانه من رحيق . والقناتان هما احياء الماضي الذي يستحق الاحياء ونقل من ثقافة الغرب ما يستحق ان ينقل ، فيكون الامل المرجو بعد ذلك هو ان يتلاقى الاثنان ..1 ففي نهاية القرن العشرين ومطلع القرن الذي يليه وجد زكي نجيب محمود - ولا نزال نجد - ان الاشكالية لا تزال عصية ولا يزال مفكري عالمنا العربي على انقسامهم مع او ضد التراث او بين بين ، ولم يستطع اي منهم ان يقدم تطبيقا عمليا يثبت الموقف الذي يدعيه ، لا نزال بعيدين كل البعد عن اتخاذ منهج عقلاني في الحكم على الامور ولا تزال الشخصنة والعواطف لها الفاعلية الاكبر في اتخاذ قراراتنا ، والاهم من ذلك تجاهلنا للسنة الكونية في تتابع وتراكم التجربة الانسانية ، فنحن نسعى في القرن الواحد والعشرين غارقين في حيرتنا امام ابسط الامور ، متناسين ان طيات النسيان قد غمرت عقود طويلة من الفكر في انتظار ان يتحول الى بداية قوية لتقدمنا ونهضتنا ..

اي مصير ينتظر تلك الامة التي تضع عصارة فكر المع ابناءها على الارفف – تقديسا له تارة ورفضا له تارة اخرى – وما بين الموقفين  يتجمد مصير الامة .. تتباهى باعادة طبع مؤلفاته وبالارقام التي تحققها مبيعات تلك المجلدات الفاخرة متجاهلين ان اكبر ما حاول هذا المفكر العظيم ان يعلمنا هو كيف نحول الفكر الى فعل وانه على مدار ما يقرب من سبعين عاما هي عمر مسيرته الفكريه لم يدعو الى تبني فكره او اتخاذ منهج الا وسعى باثباته عن طريق تطبيقه .. بل واثبت بالتجربة العملية ان الحضارة بناء سترتفع درجاته فوق بعض ، وان حاجة التقدم الى الهدم اقل بكثير من حاجتها الى البناء شرط ان ننتقي بحرص ما نهدم وما نبني . وان عشرات الثورات الاقتصادية والسياسية وحدها لا تكفي لدفع هذا المجتمع نحو قدره دون ثورة فكرية حقيقية تعيد ترتيب اولوياته طبقا للحتميه الحضارية ، وتصيغ ادواته صياغه عقلانية معاصرة وتعممها على مختلف نطاقات حركته ، وتوحد صفوف  سواعده ليتراصوا  جميعا في كافة المجالات لدفعه نحو الحلم الواحد .
ان قصورنا في فهم تجربة وفكر زكي نجيب محمود وغيره من مفكرينا هو السبب الرئيسي في متاهتنا ، وهو الاجابة على اشكالية التاريخ والحاضر ، ان عقم حاضرنا سببه هو اهمال تاريخنا  ، وهنا يجب اعادة التفكيرفي اشكالية كيف جاز لذلك التاريخ الطويل المجيد ، في عزه ومجده ، أن يلد لنا هذا الحاضر في عقمه وذله ؟ لأن التاريخ ليس مسئولا عما نحن فيه بل نحن مسؤلون .. و انما جوهر اشكاليتنا ليس في رفض تاريخنا او احياؤه وانما في كيفية تعاملنا مع هذا التاريخ في ظل الغياب العميق لفكرتي الحرية والعقل .. 







[1]  زكي نجيب محمود ، حصاد السنين
[2] رحلة - في فكر زكي نجيب محمود  امام عبد الفتاح
[3] زكي نجيب محمود ، قصة عقل
[4] تجديد الفكر العربي

[5]  مقال للكاتب صلاح سالم على موقع مجلة شؤون عربية
http://arabaffairsonline.org/ArticleViewer.aspx?ID=7bf1ed9f-9ee2-48dd-bd01-5585795a0aea

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق