الحقيقة والوهم في الحركة الاسلامية المعاصرة


 "الحقيقة والوهم في الحركة الاسلامية المعاصرة " 
هو واحد من أعمال المفكر المصري فؤاد زكريا ( 1927-2010 ) .
 استاذ الفلسفة ورئيس تحرير مجلتي " الفكر المعاصر"  و " تراث الانسانية "


عندما قامت الثورة الاسلامية في ايران ، ونجحت في القضاء على نظام من اعتى الانظمة الاستبدادية التي عرفتها البشرية واقامت حكما اسلاميا كاملا في بلد يملك جميع مقومات النهوض والتقدم : من طاقة بشرية ضخمة واعية ، وموارد طبيعية وفيرة على رأسها التدفق الغزير للبترول ، وحضارة مجيدة تضرب بجذورها في أعماق التاريخ – حينئذ كان تقييمي للثورة الوليدة هو أنها اختبار حاسم لجميع الحركات الاسلامية المعاصرة : فإذا نجحت في اقامة مجتمع العدل والحرية والتقدم ، كان معنى ذلك أن هذه الحركات ستكتسب قوة دفع هائلة يصعب ايقافها في أي بلد من بلدان العالم الاسلامي الذي يشكو من التخلف ويرزح تحت اعباء انظمة قمعية ويتعطش الى البديل . أما اذا اخفقت فإن اخفاقها سيعني اسكاتا طويل الامد لتلك الاصوات المنادية بالحكم الاسلامي وتطبيق الشريعة . فالاختبار الحاسم كان هناك ، في تلك الثورة التي امسكت بزمام بلد اسلامي عظيم الاهمية ، له ماض عريق ومستقبل حاقل بالامكانات المشجعةومع ذلك فإن مظاهر الاخفاق التي توالت على هذه الثورة الاسلامية عاما بعد عام ، لم يتردد صداها على الاطلاق لدى المنادين بالحكومة الاسلامية في بقية اقطار العالم العربي الاسلامي . 


فلم يتأثر هؤلاء بما انتهت اليه الثورة الاسلامية  في ايران من احكام قبضة رجال الدين على الدولة ، وانما ظلوا يرددون زعمهم ان الحكم الاسلامي لا يعني تسليم زمام الامر لرجال الدين . ولم يبد هؤلاء الدعاة اي استنكار لقيام حكومة الملالي بتصفية احزاب المعارضة واحدا بعد الآخر ، حتى لا يبقى في الساحة السياسية آخر الامر غير رجال الدين, لتلك المحاكمات الصورية المتعجلة التي كان خلخالي يصدر فيها احكام الاعدام ، او لفرض مناهج متزمتة على التعليم الجامعي والتعليم العام أو لروح الكآبة والعبوس التي سادت حياة الناس اليومية وارتسمت حتى على تعبيرات وجوههم .
ولم تمض الا سنوات قلائل حتى طبقت تجربة أخرى في ظروف مختلفة كل الاختلاف ، على أقرب بلد عربي إلى مصر ، وهو السودان ، وكان التطبيق هذه المرة بقرار من حاكم فرد ظل يتقلب بين الانظمة والاتجاهات المختلفة : اذ كان في بداية حكمه محسوبا على اليسار مستقطبا للقوى التقدمية ، وأصبح في نهايته مستندا الى اشد القوى رجعية وجهالة . وهلل دعاة تطبيق الشريعة لتجربة النميري ، على الرغم من مظاهر الظلم الصارخة التي ظهرت للعيان في كل تصرف من تصرفات هذا الرجل الطاغية ، وطالبو معارضيهم بأن يمنحوا الرجل فرصة ، وتجاهلوا المجاعة وأحكام الاعدام والاستنزاف الدائم لثروة البلاد وسرقات الحكام المفضوحة لأموال شعب بأسره ، ووضعوا هذا كله في كفة والتطبيق الشكلي لحدود السرقة والخمر والزنا في كفة أخرى ، فرجحت الكفة الثانية لديهم على المظالم الفادحة التي كانت تثقل الكفة الأولى .
كانت هاتان آخر محاولتان لتطبيق الشريعة الاسلامية ضمن سلسلة أطول من المحاولات الاسبق عهدا ، كان على رأسها محاولة السعودية ، ثم باكستان ، فضلا عن المحاولات الجزئية في اندونيسيا وليبيا وغيرهما ، وفي جميع هذه المحاولات كانت النتائج واحدة : أنظمة للحكم تبعد كل البعد عن الحرية والعدالة والمساواة وجميع القيم التي سعت الى اقرارها كافة الاديان ودعا اليها الفلاسفة والمصلحون منذ اقدم العصور . ومع ذلك فإن دعاة تطبيق الشريعة الاسلامية في بلادنا لم يعيروا اي اهتمام لذلك الاخفاق الصارخ الذي انتهت اليه تلك التجارب السابقة ، بل ان اصواتهم ازدادت ارتفاعا في نفس الوقت الذي كانت فيه تجربة تطبيق الشريعة في السودان قد تحولت الى فضيحة عالمية مدوية .
فعلام يدل هذا التجاهل التام للواقع ، وللتاريخ القريب ، وللأمثلة والنماذج الملموسة ؟ وكيف يرضى اي مجتمع أن يسلم مقاليد أموره لجماعات تغمض عينيها عن التجارب المحيطة بها ولا تحاول ان تتعلم من الدروس الماثلة أمامها ، أو ان تراجع خطواتها وتعيد النظر في أهدافها في ضوء الواقع الملموس ؟
ان الرد الجاهز الذي يرد به أنصار تلك الجماعات على كل من ينبههم الى اخفاق هذه التجربة في تطبيق الشريعة أو تلك ، هو أن هذا ليس هو الاسلام ، وأن خطأ النميرى مثلا هو خطأ أشخاص وليس خطأ الاسلام في ذاته . ولكن هذا الرد حق اريد به باطل : فمن المؤكد أن أية تجربة لتطبيق الشريعة الاسلامية يمكن ان تنحرف عن جوهر الشريعة ذاتها ، بحيث لا يصح تحميل الشريعة أوزار التطبيق الباطل . هذه حقيقة لا يصح ان يجادل فيها احد .
ولكن الرد بالرغم من ذلك ينطوي على مغالطات فادحة : ذلك لان اية تجربة أخرى ستكون بدورها مجرد تطبيق آخر ، فهل نحن واثقون من ان هذا التطبيق الجديد سيكون هو وحده القادر على تجنب كافة الاخطاء السابقة ، وسيكون هو وحده المعبر عن جوهر الاسلام ؟؟ ما هو الضمان ومن أين يأتي اليقين ، وما ادرانا ان هذا التطبيق الجديد لن يكون صورة مكررة لأخطاء التطبيق السعودي او السوداني ؟؟ هل بذلت جماعاتنا الاسلامية الداعية الى تطبيق الشريعة اي جهد لتضمن على نحو قاطع تطبيقا يخلو من العيوب ؟؟ واذا قيل لنا بعبارات انشائية مطاطة ، أن هؤلاء انحرفوا عن جوهر الاسلام فهل نسينا ان كل منهم كان ، ولا يزال ، يؤكد ان تجربته هي التعبير الحقيقي عن جوهر الاسلام ، ويجد بين رجال الدين والمثقفين ورجال الاعلام في بلده من يقدم أقوى الحجج التي تثبت صحة هذا التأكيد ؟ فما الذي يضمن لنا الا يتكرر ذلك في تجربتنا نحن ؟ وعلى اي اساس نأمل ان نكون نحن ، من دون الباقين جميعا ، القادرين على تجنب انحرافات التطبيق وتحقيق جوهر الاسلام ؟
الواقع ان التجاهل التام للتاريخ ، واغماض العين عن الدروس التي يقدمها الواقع الفعلي ، لا يميز الحركات الاسلامية من التجارب المعاصرة لتطبيق الشريعة فحسب ، بل انه هو السمة البارزة التي تميز موقفها من كافة التجارب السابقة ، على مر التاريخ الاسلامي . فهذه الحركات الاسلامية ترسم لنا صورة للتاريخ الاسلامي مستمدة من النصوص الاسلامية فحسب . فإذا تحدثت مثلا عن العدالة الاجتماعية ، جاء حديثها مليئا بالآيات والأحاديث النبوية التي تدعو الى تلك العدالة ، او التي تقبل التفسير في هذا الاتجاه . وهي تقف عند هذا الحد وتتصور انها قد اثبتت بذلك قضيتها الرئيسية ، وهي ان الاسلام يدعو الى العدالة الاجتماعية وان هذه العدالة الاجتماعية تتحقق في الاسلام خيرا مما تتحقق في اي نظام آخر . ولكن ، هل تعد الاشارة الى النصوص وحدها كافية لإثبات هذه القضية ؟ لنضرب مثلا مألوفا لنا جميعا : ان الغالبية العظمى من دساتير بلاد العالم الثالث تمتلئ بنصوص رائعة عن تحقيق العدالة والمساواة وضمان الحريات واحترام حقوق الانسان ، الخ ولكن هل يكفي ان نتناول بالنصوص الدستورية في بلد بأمريكا اللاتينية تعبث بمصيرها دكتاتورية عسكرية دموية ، فنقول ان العدل والحرية مستتبان في هذا البلد لأن المادة كذا من دستوره تنص على اقرار العدالة والحريات الاساسية ؟؟ اليس من الواضح ان الرجوع الى النصوص وحدها لا يسمح على الاطلاق بالحكم على اوضاع مجتمع ما او حضارة ما ؟ ان هذ المثل البسيط يكفي للكشف عن الخطأ الاساسي الذي يقع فيه معظم دعاة تطبيق الشريعة ، وانصار الحكم الاسلامي بوجه عام ، حين يجعلون من النصوص وحدها اساسا للحكم على مواقفهم الذي يزعمون انه موقف الاسلام ، من مشكلات الانسان الرئيسية ، ويتجاهلون ما حدث بالفعل في التاريخ . فطوال الجزء الاكبر من التاريخ الاسلامي كان الحكام يملكون نصوصا قرآنية وأحاديث نبوية يمكن ان تستخلص منها مبادئ رفيعة وقيم سامية ، ولكن هذا لم يمنع معظمهم من ان يحكموا حكما مطلقا ، فيعبثون بأرواح المسلمين ويتلاعبون بأموالهم ويصادرون حرياتهم . وهكذا فان النصوص لا تغني عن الرجوع الى ما حدث فعلا في التاريخ ، ولا شك ان الصورة سوف تختلف اختلافا شاسعا لو تأملنا كيف ترجمت النصوص السامية طوال التاريخ الاسلامي على ارض الواقع .
ومجمل القول ان دعاة تطبيق الشريعة يرتكبون خطأ فادحا حين يركزون جهودهم على الاسلام كما ورد في الكتاب والسنة ، ويتجاهلون الاسلام كما تجسد في التاريخ ، اعني حين يكتفون بالنصوص ويغفلون الواقع . ويزداد هذا الخطأ فداحة اذا ادركنا ان محور دعوتهم هو مشكلات الحكم ، والسياسة ، وتطبيق احكام الشريعة وكلها مشكلات ذات طابع عملي لا يكفي فيه الرجوع الى النصوص وانما ينبغي ان يكمله على الدوام الاسترشاد بتجربة الواقع. فنحن في هذه الحالة لسنا ازاء مشكلة فلسفية أو كلامية نظرية بل ازاء مشكلة تنتمي الى صميم الحياة العملية للانسان ومن ثم كان تجاهل ما حدث طوال التاريخ الماضي وفي المحاولات المعاصرة للوصول الى حكم اسلامي خطأ لا يغتفر .
و الدعوة الى تطبيق الشريعة التي تعلو صوتها ترتكز بلا شك على قاعدة جماهيرية واسعة ، وكثير من انصارها يتخذون من سعة الانتشار هذه حجة لصالحها ، ويستدلون على صحة اتجاههم من كثرة اشياعهم وانصارهم . وفي رأيي ان اتساع القاعدة الجماهيرية التي تنادي بمبدأ معين لا يمكن ان يكون مقياسا لنجاح هذا المبدأ. و استطيع ان اقول من وجهة نظري الخاصة ان الانتشار الواسع للاتجاهات الاسلامية بشكلها الراهن انما هو مظهر صارخ من مظاهر الوعي لدى الجماهير . فبعد ثلث قرن من القهر وتغييب العقل وسيادة سلطة سياسية لا تناقش ، يصبح هذا الانتشار أمرا لا مفر منه . وبعد ثلث قرن من السياسات المائعة المتخبطة تجاه التيارات الدينية : المنع الشديد من جانب ، والتأييد من جانب آخر ، الاضطهاد اللا انساني من ناحية ، والتقريب والترغيب من ناحية اخرى ، يصبح من الطبيعي ان يبحث الملايين عن اقرب البدائل الى نفوسهم واقلها احتياجا الى التفكير والجهد العقلي .وخاصة لما يغلب على تلك الاتجاهات الاسلامية من تغليب للطابع الشكلي لفهم الدين ، وتركز جهدها على الجانب الشعائري للدين وعل التحريمات اجنسية وشكل الملبس ، الخ .. وتتصور ان اول جوانب تطبيق الشريعة واهمها هو تطبيق الحدود في الخمر والسرقة والزنا وتتجاهل كلية مشكلات الحياة الاقتصادية والسياسية بتعقيداتها التي لا تنتهي ..
الواقع أن أية جماعة تود أن تكون اسلامية حقا ، ينبغي عليها أن تعطي الأولوية لا للعودة بالتشريعات إلى ما كان سائدا في عهود مضت ، بل لإزالة ما علق بهذه التشريعات في العهود الاستبدادية من شوائب ، وما فرض عليها من استثناءات أصبحت بمضي البعض هي القاعدة .
وما يحتاج اليه المجتمع الاسلامي حقا هو مراجعة قوانينه بحيث تصبح قادرة على معالجة مشكلات الحاضر ، ومواجهة تحديات المستقبل ، وبحيث يستبعد منها كل ما هو دخيل وما هو قمعي ظالم . ومع ذلك فإن النظرة التراجعية التي تركز على العودة الى الماضي ، هي التي تطغى على غالبية الجماعات الاسلامية الحالية ، بينما تختفي تماما أية نظرة واقعية أو مستقبلية .
و اخطار المستقبل وتحدياته تواجهنا جميعا ، لا فرق بين اسلاميين وقوميين وتقدميين ، ومن اجل هذا كان من الخطأ الفادح ان ينظر نقاد الاتجاهات الاسلامية الى اصحاب هذه الاتجاهات على انهم اعداء . فنحن جميعا محشورون في سفينة واحدة تزداد خروقها اتساعا يوما بعد يوم . ومن الظلم البين ان نعامل عشرات الألوف من الشبان الجادين الراغبين في الاصلاح على انهم فئة منحرفة او جماعة ضالة ينبغي محاربتها . ان مشكلتهم الكبرى في نظري ، هي انهم لا يستخدمون عقولهم استخداما كاملا ، وكثيرا ما يعطلونها الى حد الشلل التام . ومثل هذه المشكلة لا يفيد فيها اتخاذ موقف العداء او الاضطهاد . وانما قد يسهم في حلها الحوار الذي يسعى الى ايضاح الافكار والمواقف ، وازالة الغشاوة التي يفرضها الاكتفاء بوجهة نظر واحدة لا تتغير .
ان التعصب لوجهة نظر واحدة ، بل لاتجاه طائفة او جماعة معينة داخل وجهة النظر تلك يلحق بالعقل تشويهات خطيرة ، ليس أقلها ذلك الانغلاق الفكري الذي يوهم المرء بأنه هو الذي يملك الحقيقة كاملة ، وبأن كل من لا يسيرون في طريقه على باطل . هذا الاحساس باليقين المطلق شديد الخطورة على التكوين العقلي للانسان ، وخاصة اذا تملكه وهو ما يزال في شبابه المبكر . ومن المؤسف ان هذا الاحساس لا يقتصر تأثيره على المسائل الدينية وحدها بل انه يمتد الى كافة جوانب حياة الانسان . وهكذا تجد الشاب الذي يخضع لمثل هذه المؤثرات ميالا الى الجزم والتأكيد القاطع في كل شيء ، لا يؤمن بتعدد طرق الوصول الى الحقيقة ، بل يريد في كل الامور رأيا واحدا واجابة نهائية يرتاح اليها ويتوقف عندها ويكف بعدها الى التساؤل . وحين تصبح هذه عادة عقلية مستحكمة فإنها تطس الروح النقدية وتهدم القدرة على الابتكار وتجعل من التجديد آفة ينبغي تجنبها ، ومن الابداع بدعة لابد محاربتها . وأحسب ان امة تشيع بينها هذه الطريقة في التفكير لابد ان ينتهي أمرها ليس بالبعيد ، الى الانهيار . وأحسب أيضا ان العقل الذي يعتاد ان يسير في اتجاه واحد والذي يعجز عن فهم حقيقة النسبية وتعدد طرق الوصول الى الحقيقة لابد ان يوصل اصحابه دون ان يشعروا الى هذه النتائج الخطيرة ، فيصبح من بديهياتهم التي لا تناقش ، الاعتقاد بأن الشك خطيئة والنقد جريمة والتساؤل اثم وجريمة .
ان المشكلة الكبرى لدى هؤلاء الالوف المؤلفة من الشبان والفتيات الذين يدينون بالولاء لتيار من التيارات الاسلامية المعاصرة تكمن في انهم يتصورون ان خير مسلك يبدأ به المرء حياته هو أن يصل الى يقين كامل ، يجد اجابات جاهزة عن كل سؤال ، ويزيح عن عقله عبء التساؤل والنقد وتلك في رأيي بداية لا تبشر بالخير للفرد الذي يعتنقها ، ولا للأمة التي يكثر فيها أمثال هذا الفرد .. ففي عالمنا هذا عالم الابداع والابتكار والتغير الذي لا ينقطع ، عالم التنافس الرهيب على الفكرة الجديدة والممارسة غير المألوفة ، لابد ان تسحق عجلة التقدم كل من يبحث قبل الأوان عن يقين مطلق وحقيقة نهائية يوقف بعدها عقله ويتصور أنه اهتدى الى جميع الاجابات . فاليقين إذا أتى ، ينبغي الا يأتي الا في النهاية ، اما في البداية ، وخلال الرحلة الطويلة فإن الروح النقدية المتسائلة المدققه هي الدليل الذي لا غناء عنه لمن يريد حقا أن يعيش عصره دون أن يخدع نفسه أو يدفن رأسه في الرمال .

لقراءة المزيد من أعمال المفكر فؤاد زكريا